في قصة غريبة وعجيبة قرأتها، وجدت أن أدق مخلوقات الله تفكر، وتتلاحم حين الشدائد! فحين تموت نملة من بين جحافل النمل، تفرز مادة كيميائية تهرع لها مجموعات النمل، فتعمل على دفنها في مقابر تخصها، شأن ذلك شأن ما يفعله الإنسان، وحين وضع أحد العلماء تلك المادة على جسد نملة حية تجمع النمل ودفنها وهي حية.
يقول فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي: "إن النملة تملك نوعاً من التصرف العقلاني، وهي من أذكى الحشرات، وترى بموجات ضوئية لا يراها الإنسان، ولغة النمل كيميائية، لها وظيفتان: التواصل والإنذار، فلو سحقت نملة لفاحت رائحة تصدر عنها تستغيث بها النملات، أو تحذرها من الاقتراب من المجزرة".
ولا يقتصر هذا على موقف الموت والحروب والمجازر، وإنما فيما يتصل أيضا بالتكافل الاجتماعي، فنجده يقول في هذا الشأن: "فإذا التقت نملة جائعة بأخرى شبعى تعطي الشبعى الجائعة خلاصات غذائية من جسمها، ففي جهاز هضمها جهاز ضخ تطعم به"!
فأين نحن مما يكتنف عالمنا من الشهوة والنشوة للقتل واستدرار الدماء؟! وأين يقف الإنسان منا في صفوف مخلوقات الله؟! إذ أصبحت مناظر الدماء شهوة رائقة تفوح في كل الطرقات؟
كنا فيما مضى نعلم أن هناك يوما محددا للقصاص في ساحة المدينة، حسب شريعة الله عز وجل، إلا أنني أتذكر أن الرجال لا يذهبون ليشاهدوا هذا المشهد، ومنهم أبي رحمه الله، وحينما سألت والدتي، أجابتني: "إنه لا يصح أن يذهب الرجال لمشاهدة الدماء والقتل، وحين ألححت عليها بالأسئلة كعادة الأطفال"، أجابتني بقولها: إن همم الرجال "تطيح"! أي أن معنويات الرجال تنحدر! وتترك أثرا سلبيا في نفوسهم؛ فالدماء والقتل ومناظرهما لهما ما لهما من تأثيرات أمعن علماء النفس في تحليلها. ولقد كانت الأكاديمية الفرنسية أثناء زهو عصر النهضة تضع بنود شروطها على الفن وعلى المسرح الفرنسي الكلاسيكي آنذاك؛ ومن خالف شرطا منها عوقب بالسجن والطرد من عالم المسرح والفن، ومنها عدم ظهور مشاهد القتل على خشبة المسرح أمام النظارة بالإضافة إلى احترام القيم ومعايير الأخلاق، فنذكر في هذا الشأن كيف حوكم الكاتب الفرنسي "كورني"، لأنه جعل شابا يصفع رجلا كبيرا على وجهه أمام الجمهور! خوفا مما ستتركه هذه المشاهد من تغيير على سلوك البشرية.
في يومنا هذا تجد أن الأمر قد تخطى شاشات السينما والتلفزيون والمسرح والفن بشكل عام، إلى واقع الحياة الفعلية، ومما لا شك فيه أنه نتاج لموجات العنف والقتل والدماء على مدار عقود عبر فنون العنف المصدرة إلينا حتى في ألعاب الأطفال، والتي نتعاطاها كحبات "الأنتي بيوتك" كل مساء.
لم يعد للبعد الإنساني مكان في حياتنا! وعلى أقل تشبيه لم يعد لنا عقل كعقل تلك النملة، والتي تنفذ مادة عبر جسدها لتستغيث بمثيلاتها اللاتي يفقهن سر تلك الرائحة، فيهرعن إما لإسعافها أو لدفنها أو إفراز تلك المادة لتلافي مكان المجزرة وحماية ما يتبقى منهن! نحن الآن نشي ببعضنا ونحمل السلاح في كل مكان من أرضنا ونطلق الرصاص عشوائيا وكأنه المجد الذي لا يعادله مجد! زهوا بإهدار الدماء، دمائنا نحن وليس غيرنا! دماء من يحمل في جسده جزئيات جيناتنا، ونسبنا، واسمنا، وأعراقنا، وخلايانا تتناثر على الأرض، وكأنها قطع من الصلصال الملون. من أين جاءت لنا هذه المشاعر ومن زرعها في وجداننا، من المسؤول إذاً؟
لقد نبهنا مرارا وتكرارا عن استمراء مشاهد العنف عبر الفنون، لما في ذلك من تغيير سيحدث في سلوكنا، إلا أن صوت الناقد المتخصص آخر من يستمع له! وها نحن اليوم نرى ثمرات ذلك العنف المتعاطى يوميا في الشارع العربي! فالموضوع ليس له علاقة بالدين والأخلاق والشجاعة والمروءة بأي حال من الأحوال، بقدر علاقته بالتركيبة النفسية المدمرة من الداخل، والله يعلم كم من الوقت نحتاج لإزالة هذه الآثار.
فإذا نظرنا إلى أفلام هذه الأيام على الساحة حاليا سنجد أن الحرق والقتل مستمر طيلة الفيلم من أوله حتى آخره، مثال فيلم "السبوبة" بطولة أحمد هارون وراندا البحيري، أو فيلم "قلب الأسد" بطولة محمد رمضان، وفيلم "عبده موته" بطولة ذات الممثل، وغيرها من الأفلام التي لا تتوانى في سفك الدماء والذبح علانية أمام النظارة بعنف شديد وبشكل متكرر طيلة الوقت، فلك الله أيتها الأجيال القادمة!
والنتيجة.. هذا الاقتتال في شوارعنا في ليبيا واليمن ومصر وسورية والعراق وكل الوطن العربي، حتى في السعودية نجد خبر ذلك الأب الذي قتل زوجته وبناته متجردا من كل مشاعر الإنسانية، ويشتد القتل في وطننا ثم نستدعي الخارج لنجدتنا وتدخل الدبابة تدهس تراب الوطن الغالي ونحن لا نعلم من هو المنوط بالنجدة نحن أم الآخرون! غريب ما يحدث في أوطاننا وكأننا نريد من يدفعنا خارج فراش الرقاد، عله كابوس قاس!
لدي قصة ظريفة حدثت بالفعل، وهي أنها كانت لدى ابنتي قطة صغيرة جرحت، فأسرعت بها إلى الطبيب، وحينها قام الطبيب بإجراء كل الإسعافات، وتعليق المحاليل، وقياس الحرارة، وجرعات "الأنتي بيوتك" وكل ما استحدثته تقنيات الغرب الخارجي من أدوية واختراعات؛ إلا أن القطة ماتت! ولم تنفع حينها النجدة بالخارج والداخل وبالتقنيات!
وحين سألت قيل لي إن القطة تعالج جروحها بريقها فقط، فلديها هي ذاتها مضاد خاص لا يمتلكه سواها لإبراء جروحها! فهل لنا أن يتركنا الغرب وشأننا في معالجة جروحنا، في سورية وفي مصر، وفي باقي بلادنا، فنحن أدرى بذات الداء وذات الدواء! كما أن غياب الأدب الإنساني والفنون الإنسانية أمر يجب تداوله، لاستعادة ما تبقى من شذرات في نفوسنا قبل فوات الأوان.