بصرف النظر عن الآراء النقدية وتقارير المنظمات الدولية، التي تعزي تخلف الأوضاع في بلداننا إلى ضعف مستوى البحث العلمي وتدني منسوب الإنفاق على المعرفة بتعدد أنماطها وتخصصاتها ومجالات عملها، وإذ تؤكد مجمل البحوث العلمية الدولية على ارتباط حالة التراجع في مؤشرات التنمية الاقتصادية والاجتماعية العربية بغياب الرؤى العلمية والبحوث التتبعية ودراسات الجدوى الواجب انتهاجها قبل المصادقة على السياسيات العامة، ما يحول دون إحراز خطوات متقدمة في مضمار التنمية البشرية ورفد مقومات الانسجام والتناغم بين الدولة والمجتمع؛ إلاّ أن الطروحات المتعلقة بهذا الشأن لم تؤت ثمارها، رغم التكرار الممل وتراكم التبعات الناجمة عن الصمم، الذي استعصت محاولات التخفيف من آثاره الكارثية الآخذة بخناق الأمة العربية عامة وأوضاعها القطرية دون استثناء، ومع تفاوت الإمكانات المادية المرصودة في موازنات الدول العربية لصالح مؤسسات البحث العلمي ومراكز الدراسات السياسية والاجتماعية بصورة يمكن ملاحظتها من خلال جودة المخرجات البحثية من قطر لآخر، إلا أن قياس ذلك بمستوى اهتمام الدول المتقدمة ونسبة الإنفاق على صروحها الأكاديمية ومراكزها التخصصية يكاد يكون مفصحاً عن البون الشاسع بين عالمين، متقدم يفرض قوانين التفوق بتباهٍ واستعلاء، ومتأخر شديد الشغف بصناعة الوهم ونصب الواجهات والعناوين البحثية على سبيل المجاراة، ثم لا يكون عليه عند مواجهة التحديات المصيرية الصعبة غير الإذعان للأمر الواقع.

قد يكون الأمر مدركاً، وتشخيص مشكلات الأبحاث ذات الطبيعة العلمية ممكناً عندما تقتصر المعالجات المطلوبة على نطاق الوفرة المالية الكفيلة بتأمين أدوات البحث ودعم وسائله وتسويق مخرجاته، لكنه يبدو في مصاف المعضلات المستعصية بالنسبة لمؤسسات الدولة العربية ومراكزها النوعية المختصة بترشيد القرار وتحقيق الفاعلية المناسبة لإنجازات العقل المكرسة من أجل السياسة، لا لضآلة الإمكانات المتاحة كمشكلة قابلة للتفهم والمعالجة، وإنما بفعل الفجوة بين أهداف المراكز البحثية الصادرة عبر قرارات جمهورية ومراسيم ملكية وبين رؤية النظم السياسية الحاكمة وحدود تفهمها لدور ومكانة المعرفة وماهية الأنساق التكاملية بين منظوماتها المتعددة ثقافياً وتربوياً وأكاديمياً وبين القرار الاستراتيجي العربي في بلدان لا يستقر لها قرار!

لدينا متسع من الوقت لمتابعة مجريات الأحداث التي مرت وتمر بها شعوب ودول المنطقة العربية، والوقوف على مجمل الدراسات الاستشرافية والتقارير الدورية والسنوية، ناهيك عن الاستخلاصات محدودة التداول في متناول الصف الأول من القيادات الرسمية لهذه الدولة أو تلك.. وبإلقاء نظرة عابرة على تلك المخرجات سنرى بوضوح كم كانت الفرص مواتية لالتقاط الفكرة والتعاطي معها بجدية وعمق، وكم كان متاحاً بذل اليسير من الجهد المثمر استعداداً لما هو آت من متغيرات جوهرية تستهدف بلداننا وتقوض استقرار مجتمعاتنا وتبدد فرص إصلاح الاختلالات السياسية والمؤسسية في بنية النظام السياسي بشقيه القطري والإقليمي.

وبصريح العبارة لم تكن هذه الاختلالات متعذرة على الرؤية ولا تعوزها فراسة منجم ولا فذلكات كاهن، بل لقد كانت من الوضوح والاتساع والتماثل قدراً يدعو للتقليل من شأن صفارات الإنذار التي أطلقتها مراكز الدراسات العربية.

واجب المسؤولية يدعونا الآن إلى اعتبار زلزال الربيع العربي نتيجة موضوعية تتحمل الأنظمة المطوح بها تبعاتها كاستحقاق عادل للعزوف عن العقل في تدبر شؤون الحكم، وربما يغدو الثمن مضاعفاً في حق الحكومات التي منحتها الأقدار طوقاً مرحلياً للنجاة فلم تأخذ العبرة نصب عينيها، وما تزال تراهن على دأبها القديم مع أنها تمتلك من وسائل التحليل والاستقراء والبحث ما يؤهلها للاستغناء عن الأدوات التقليدية المعدة لإخماد الانتفاضات الشعبية، وما تبرح قادرة على ترميم علاقاتها بمصادر إنتاج المعرفة لتدلها على طرائق مبتكرة لنيل رضى المجتمع وضمان مؤازرته في مواجهة بؤر التطرف والعنف، وانتهاج سياسات جديدة لإصلاح التربة ومدها بمقومات التحصين الذاتي، القادر على تحقيق أفضل معدلات المناعة ضد ثقافة التجزئة والاستلاب على الصعيد القطري وصولا نحو استراتيجيات بناء أسس الأمن القومي العربي، الذي يتصدر قائمة الأهداف الحقيقية لمشروع الشرق الأوسط الجديد واستثماراته الاستعمارية في الواقع العربي الحافل بالمفارقات الفاجعة، حيث تتحول ثورات الشعوب وتضحيات أبنائها إلى نقلات درامية من غصص الاستبداد إلى الارتهان وفواجع الوقوف قريباً من مقامات الذهول؟!

هل يكفي أن نقف ساخرين كلما رأينا ندوة تعقد أو ورشة عمل تقام.. هل بوسعنا الاستغراق في الضحك عند تأمل باحث ميداني أو أكاديمي متخصص على نحو من الإجهاد الذهني الشاق لكليهما بينما نعلم عدم جدوى ما يقومان به؟

دراسات لا حصر يتسعها وبحوث لا سبيل لتعقبها وبيانات استقصائية تعاين أوضاعنا القطرية وتأثيراتها القومية ونتائجها المحتملة على المستويين العربي والعالمي.. لكن دون طائل..؟

جهد مضن وشاق تحاول مؤسسات البحث العربية ويحاول القائمون عليها بذله لاستكشاف صورة المستقبل ووضع الدوائر الهندسية لماهية معطياته، وإعداد شتى الافتراضات القائمة على منطق ربط الأحداث ببعضها وقراءة مقدماتها ومقارنتها بتجارب سابقة وأخرى قيد التفاعل. فعلى سبيل ماذا تبذل الجهود وتستنزف العقول؟ ومتى نبدأ المواءمة بين السلطة والمعرفة.. بين المال ومجالات استثماره في مواجهة الإعصار الراهن؟

وأعود لمقامات الذهول في تناولة لاحقة.