عبر ثلاثة عقود، ظل اعتراف أية دولة عربية بوجود "إسرائيل" حلما بعيد المنال بالنسبة للصهاينة. فقد كانوا يشعرون أن رفض العرب الاعتراف باغتصابهم لفلسطين، يعني استمرار حالة الحرب، وأن وجودهم في هذه المنطقة سيبقى عرضة للتهديد والفناء. وكان توقيعهم مع مصر لاتفاقية كامب ديفيد في سبتمبر عام 1978، خطوة كبرى، في تحقيق هذا الحلم، ليس فقط لأن الكيان الصهيوني تمكن من إحداث ثغرة رئيسة في جدار الرفض العربي لكيانه الغاصب، بل لأن هذا الاختراق قد تم مع مصر، أكبر دولة عربية مواجهة، والأكثر كثافة سكانية في الأقطار العربية.
لم يكن الإنجاز الصهيوني، في كامب ديفيد متمثلا فقط في تأكيد الاعتراف المتبادل بين مصر و"إسرائيل"، ولكن في فتح الباب أمام اعترافات أخرى ومعاهدات صلح مع بقية الدول العربية. يضاف إلى ذلك، أن هذا الإنجاز التاريخي للصهاينة، قد ارتبط بفرض قيود على مصر، منعتها من ممارسة سيادتها الكاملة فوق أراضيها في سيناء. وأخرجتها من دائرة الصراع مع الصهاينة، عبر حل منفرد، لم يأخذ بعين الاعتبار المصالح القومية، ولا حقوق الشعب الفلسطيني. واتسمت علاقات الكيان الصهيوني بمصر، باستقرار لم تعكره الأحداث العاصفة التي شهدتها البلدان العربية، في أكثر من ثلاثة عقود، مثلت الحقبة التي أعقبت توقيع المعاهدة المصرية- الإسرائيلية.
لقد حالت معاهدة كامب ديفيد دون استثمار مصر، لعمقها العربي الاستراتيجي، وأدت إلى التزامها بموقف الحياد أمام القضايا العربية المصيرية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. وكان عقد الثمانينات من القرن المنصرم، قد اتسم بعربدة إسرائيلية غير مسبوقة، شملت ضرب مفاعل تموز العراقي، وغزو لبنان واحتلال بيروت والعدوان على تونس، واغتيال القادة الفلسطينيين. من أمثال خليل الوزير وصلاح خلف، كما شهدت تلك الحقبة، الحرب العراقية الإيرانية، وهي أطول حرب في تاريخ العرب الحديث.
ومع الفراغ التي تركته مصر، في الصراع العربي الصهيوني، وترحيل الفلسطينيين، إلى أقطار عربية، كاليمن وتونس، بعيدا عن مركز المواجهة في فلسطين، وتراجع انتفاضة أطفال الحجارة في نهاية الثمانينات، وانشغال العرب بحرب الخليج الثانية، وجدت التيارات المتشددة ضالتها لتوسع من دائرة تحركها على كل الأصعدة. وكان صعود حماس إلى الواجهة في قطاع غزة وبقية المناطق المحتلة، هو تعبير عن تراجع دور التيار المدني في النضال الوطني الفلسطيني، لصالح جماعة الإخوان المسلمين.
اختزل الدور المصري – الفلسطيني، في عهد الرئيس مبارك، في لجم حركة المقاومة، والعمل على إلحاقها بخط التسوية. وفي أحسن الحالات لعب دور الوسيط بين الأطراف المتفاوضة من الفلسطينيين والإسرائيليين. وإيجاد مخرج من حالة الانقسام بين الضفة والقطاع. وقد واصل الرئيس مرسي هذا الدور، من خلال العلاقة العقدية مع حماس، حيث رعى اتفاق وقف إطلاق النار بين الإسرائيليين والفلسطينيين في حرب غزة الأخيرة، وأصبح ضامنا لهذا الاتفاق.
بسقوط حكم الإخوان، لم يعد للحكومة المصرية الموقتة، التأثير الذي امتلكته حكومة الرئيس مرسي على حماس. ومن جهة أخرى، فإن وضع حماس لم يعد سياسيا بذات القوة التي كان عليها إبان سيطرة جماعة الإخوان على السلطة. لقد خسرت حماس حليفا استراتيجيا، وأصبح وضعها في الصراع مع رام الله ضعيفا. وقد عكس هذا الواقع ذاته على الموقف الفلسطيني، ليشمل الصراع الفلسطيني – الفلسطيني انقساما في الموقف إزاء أحداث مصر الأخيرة، بين فتح وحماس. فبينما أيدت فتح بالضفة الغربية هذا التغيير، أدانته حماس في قطاع غزة واعتبرته انقلابا على الشرعية، وأعلنت دعمها للرئيس المعزول الدكتور محمد مرسي.
تطورات الأحداث وبشكل خاص، هيمنة قوى التطرف الإسلامية على أجزاء كبيرة من سيناء، تطرح علامات استفهام كبيرة، على مستقبل معاهدة كامب ديفيد، بين مصر و"إسرائيل"، وهل بالإمكان صمودها أمام الاختلالات التي يتعرض لها الأمن القومي في مصر.
بالتأكيد، لا يتوقع أحد أن تخضع القيادة المصرية الجديدة، لخاطر عيون الإسرائيليين، لنصوص جامدة وردت في تلك المعاهدة، هدفت إلى تحقيق أمن الصهاينة، وكبلت من ممارسة مصر لكامل سيادتها على سيناء. فالمطروح الآن هو إما الالتزام بنصوص معاهدة كامب ديفيد كما وردت، والقبول بسطوة الإرهاب، وتمدده إلى مختلف الأراضي المصرية، أو الانتصار لمبدأ السيادة، وعدم التقيد بنصوص المعاهدة.
وهناك أيضا، تخوف من تقاطع وداخل الخنادق، بين موقفي مصر والكيان الصهيوني تجاه حركة حماس، بعد تدخل الأخيرة، لنصرة جماعة الإخوان، واتهامها بالتورط في أحداث العنف التي أدت إلى قتل متظاهرين مصريين ضد حكم الرئيس المعزول. ويضاعف من هذا التداخل، أن الاتصال بحماس من قبل جماعة الإخوان المسلمين، أصبح تهمة بالخيانة العظمى، حسب القضاء المصري. وتلك هي أحد التهم التي يواجهها الآن الرئيس المعزول.
وضع "حماس" المرتبك، حين آثرت الوقوف ضد إرادة الشعب المصري، وضعها بين فكي كماشة، وحجب عنها تأييد الجمهور الفلسطيني، الذي رأى في مواقفها ترجيحا لانتماءاتها الأيديولوجية على حساب القضية الفلسطينية، التي يفترض أن تكون مبرر وجودها، كحركة مقاومة ضد الاستيطان والاحتلال الصهيوني، وأيضا على حساب العلاقة التاريخية بين الشعبين المصري والفلسطيني. وقد كان لهذا الموقف المرتبك والمتسم بالتسرع، إسقاطاته السلبية المباشرة، على مصالح الفلسطينيين، إذ تسبب في إغلاقات متكررة لمعبر رفح، بوابة الفلسطينيين الرئيسة على العالم.
في هذا السياق، يرى كثير من المراقبين، أن استمرار وجود حماس هو رهن لخيارين لا ثالث لهما. الخيار الأول، هو التسريع بعملية المصالحة الفلسطينية، والاندماج بالضفة الغربية، وإنهاء حالة الانقسام. وذلك بالتأكيد سيقوي من الأوراق التفاوضية، التي لا تكاد توجد لدى السلطة الفلسطينية. الخيار الآخر، هو إشعال حرب أخرى مع الكيان الصهيوني، لكسب التأييد الشعبي الفلسطيني، وينتج عنها خلط الأوراق، وتدخل قوى إقليمية عربية، قد تكون مصر بينها على الخط. لكن نتائج هذه الحرب، لن تكون مضمونة وقد تودي بحركة حماس، وتخرجها إلى الأبد من الساحة الفلسطينية.
ويبقى السؤال عن الموقف الصهيوني من أحداث مصر بحاجة إلى المزيد من التفصيل والتحليل.