في مقالته السبت الماضي كتب شايع الوقيان في صحيفة عكاظ مقالة مهمة عن معنى الحوار مع الآخر. اشتغل الوقيان على التحليل اللغوي لمفردتي الحوار والآخر ليكشف انطواءهما على معنى المسافة والبعد. "المعنى الأصلي للجذر اللغوي لـ"الآخر" يفترض وجود مسافة "زمانية" كالتقدم أو التأخر، أو "مساحة" كأول الصفوف وآخرها"، يكتب الوقيان.
الحوار كذلك، كما يخبرنا الوقيان أيضا، هو "الرجوع"، الرجوع عن الشيء أو إلى الشيء، وكأن الحوار هو الرجوع للآخر للتعرف عليه واكتشافه. هذا التحليل جوهري، لأن الحوار لا يحدث إلا مع الآخر. الحوار يتطلب في جوهره كما تقرر أعلاه مسافة اختلاف يمارس من خلالها التفكير العود والرجوع. حتى الحوار الداخلي الذي يجريه الفرد بينه وبين نفسه يستوجب أن يتمثّل الفرد آخر يجري معه الحوار. أي يجري مساحة بينه وبين ما هو مستقر لديه من مواقف وأفكار ليجري معها فعل العودة والرجوع. العودة والرجوع كما الضيافة تفترض اغترابا وبعدا. الضيف هو آخر تفصلنا عنه مسافة الزمن أو المكان والضيافة، كما الحوار، هي عودة اتصال ولقاء بعد غياب.
من المهم التأكيد هنا مع الوقيان أن الحوار لا يتحقق، وهو العودة والرجوع، إلا ببقاء المسافة بين المتحاورين. في حال انتهت المسافة بينهم أو انتهت "آخريتهم" واختلافهم توقف الحوار لانحسار الحضور من طرفين على الأقل إلى طرف واحد بنسخ متعددة. الحوار لا يسعى إلى التخلص من "آخرية" الآخر، من اختلافه، من تنوعه، بل يسعى إلى فهم كل هذا. فهم "آخرية" الآخر واختلافه وتنوعه هو إقرار بعدة أمور أولها تحقيق الأمان باعتبار أن الحوار لن يكون هجوما للقضاء على الآخر باعتباره مختلفا وتحويله إلى نسخة من الذات. هذا الأمان جوهري لأن الكثير من الناس يقلق من الحوار المفتوح والصريح، لأنه يفتح مجالا للاستغلال من قبل آخرين لإجراء عملية تحويل ونقل لتصبح العملية بدلا من ذات وآخر، ذاتا وذاتا أخرى شبيهة لها. فهم "آخرية" الآخر أيضا هو تأسيس للمسافة البينية التي يحدث فيها الحوار. الآخر المختلف حين يكون مفهوما ومعقولا يكون مؤهلا لتقديم الدعوة للحوار: تقديم الضيافة. هذا التحليل يحيلنا إلى إحدى العقبات التي تجعل من الحوار متعذرا، أو بلغتنا هنا العقبات التي تجعل من العودة إلى الآخر متعذرة. العودة تتطلب طريقا موصولة، ولذا لا بد هنا من الحديث عن عمليات قطع الطريق بين الذات والآخر.
قطع الطريق هنا يعني قطع الطريق أمام إمكان جعل "آخرية" الآخر مفهومة ومعقولة. من المهم هنا التأكيد على أن جعل "آخرية" الآخر معقولة ومفهومة لا يعني قبولها كخيار ذاتي أو التحوّل لها، بل يعني فقط القدرة على تصوّر اختلاف الآخر إمكانا معقولا. أي أن يبدو الآخر بمبررات معقولة للحفاظ على "آخريته". قطع الطريق على الحوار يعني جعل "آخرية" الآخر غير متصوّرة. أي أن تبدو مجرد انحراف أو خلل أو مرض يجب الخروج منه. الموقف من الآخر هو موقف ثقافي يتحقق ويتأسس من خلال الشبكة الاجتماعية التي ينشأ فيها الفرد. الثقافات تتفاوت في موقفها من التنوع والاختلاف. يمكن تقسيم هذه الثقافات إجرائيا إلى طرفي نقيض: ثقافة مفتوحة وثقافة مغلقة. الثقافة المفتوحة كما البيت المفتوح تجعل الضيافة والحوار ممكنا. ذلك لأنها تعترف بالاختلاف والتنوع. هذا يعني أن تصورات المجتمع للخير والحق والجمال متنوعة ومختلفة. ليس هذا فقط، بل وأن هذا التنوع والاختلاف هو قيمة بحد ذاتها وجزء أساسي من تركيبة الخير والحق والجمال. الثقافة المغلقة في المقابل تحصر مفاهيم الخير والجمال والحق في تصورات أحادية ثابتة، مما يجعل ما يخالفها بالضرورة ضلالا وخروجا عن الطريق المعقولة والمقبولة. صورة الآخر في الثقافة المفتوحة طبيعية. الآخر طبيعي، لأن الاختلاف والتنوع هو الأصل. انخفاض التنوع هو ما يثير القلق هنا. في المجتمع المغلق الآخر غريب وشاذ ويجب القضاء عليه والتخلص منه، لذا تعمل التربية والتعليم في هذه المجتمعات على رسم طريق واحد يبدو كل من هو خارج عنه غير مقبول ومرفوض، والطريق الوحيدة للتعامل معه هو إعادته للطريق الصواب، أو بعبارة أخرى القضاء على "آخريته".
قطع الطريق على الحوار يكون بجعل الأمل في تفهم "آخرية" الآخر ضعيفا وربما معدوما. في هذه الأجواء تتحول عملية التواصل بين الذات والآخر إلى عملية تحويل هويّة. بمعنى أن يكون هدف التواصل هو تغيير الآخر وضمه إلى المجموعة. هنا تبدو ربما بوضوح أكبر عملية الحوار باعتبار طبيعة العلاقات بين الأفراد. الحوار هنا هو فضاء ومجال وأفق مفتوح ليعرف الناس بعضهم البعض. الأفق هذا بالضرورة جزء من معادلة السلطة في المجتمع. السلطة في الأخير تتحقق ضمن العلاقات والحوار علاقة. السلطة قد تحضر في العلاقات لتقطع التواصل وقد تحضر في العلاقات لحماية التواصل.
الحوار بوصفه ضيافة ـ هنا ـ يعني أن يكون الباب مفتوحا. الكريم لا ينتقي زواره، بل يدع الباب مفتوحا لكل راغب في الزيارة. الكرم، كما الحوار، يتناقض مع إغلاق أبواب التواصل. العقل والنفس المفتوحة للضيافة والحوار مستعدة للمغامرة مع الجديد والمختلف. باختصار هي مفتوحة على "آخرية" الآخرين. الضيافة والحوار مساحات مفتوحة للتأسيس. بطبيعتها لا تتأسس إلا بمشاركة حقيقية بين أطرافها. من المتعارف عليه في آداب الضيافة أن المستضيف لا يكتفي فقط باحترام ضيفه مهما كان غريبا، بل عليه حمايته من أي اعتداء على اختلافه وتنوعه ما دام في علاقة الضيافة. المحاور كذلك مطالب باحترام وحماية حق محاوره في الاختلاف. هذا يعني الكثير وسيكون موضوعا لنا هنا في الأسابيع القادمة. وصف الوقيان محقا الحوار بالجسر الذي يكفل التواصل. لا بد للجسر من طرفين: أنا وآخر. الجسر بطرف واحد جسر منهار وخطر على عابريه.