أقر مجلس الوزراء مطلع الأسبوع نظام الحماية من الإيذاء، الذي طال انتظاره، وهو ما يعد خطوة مهمة في مكافحة داء التعنيف الذي تساقطت لإقراره أرواح عدة يرحمها الله. ومع ذلك فإن فرحتنا به منقوصة لحين صدور لائحته التنفيذية التي نأمل أن تكون المحفز لإقرار نظام المؤسسات والجمعيات الأهلية، حيث إن استدامة تنفيذ نظام الحماية من الإيذاء تعد شبه مستحيلة من دونه.
ملامح النظام التي تم الإعلان عنها تتمحور حول المواطن وتفعيل دوره المدني بغض النظر عن صفته الوظيفية ومكان وزمان وجوده، فكل ما تحتاجه للإبلاغ هو أن تكون مواطنا وشاهدا على حالة تعنيف. ومع أملنا بأن تحوي اللائحة التنفيذية على ما يضمن تطبيق بنودها بشكل فاعل إلا أن واجب المواطنة المطلوب في ملامح النظام المنشور يستوجب إقرار جمعيات أهلية لحماية المبلغين وإقرار جمعيات أهلية لرصد تفاعل وزارة الشؤون الاجتماعية والشرطة وغيرها من القطاعات مع بلاغاتهم، وإقرار نقابات مهنية ترصد أداء مختصيها في الإبلاغ عن حالات التعنيف داخل مؤسساتهم كالمدارس والمستشفيات.
نحن لا نريد نظاما آخر يعلوه الغبار. ما نريده هو أن تكون مواطنتنا تحت نظام الحماية من الإيذاء أكبر من مجرد فزعة فردية أو إعلامية، وأن تسلك هذه المرة طريق المدنية التي دعا لها النظام بكل وضوح. ما نريده هو ألا تضيع الأرواح التي أزهقت بسبب تأخر النظام وأن نبقي ذكراها بجمعيات أهلية متخصصة تحمل أسماء لمى وحنان وفيصل -يرحمهم الله.
إقرار نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية وتفعيله هو الضامن الوحيد لنجاح تطبيق نظام الحماية من الإيذاء بل والضامن الوحيد لاستدامته، فبدونه لا يمكن لوزارة الشؤون الاجتماعية والقطاعات المعنية الأخرى مراقبة فاعلية النظام ولا يمكنهم رصد ثغراته لتحسين أدائه.
ملامح النظام المنشورة تبين استحالة تطبيق نظام الحماية من الإيذاء بالشكل المطلوب من دون وجود جمعيات أهلية تقوم برصد جودة الخدمات المقدمة للمعنفين والمعنفات، ونقابات مهنية تقوم برصد سير القضايا والدعاوى، وجمعيات تطوعية للتوعية بإجراءات التبليغ وغيرها الكثير. هذه الأنشطة هي المؤشرات الرئيسة لقياس تأثير النظام على معدلات التعنيف والإيذاء، وما سواها مجرد مؤشرات تطبيقية لا قيمة لها إن لم يتم تقييمها مع مؤشرات التأثير والفاعلية التي لا يمكن الحصول عليها إلا عن طريق الجمعيات والمؤسسات الأهلية.
من المؤسف حقا أن يقتل نظام الحماية من الإيذاء في مهده لغياب نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية. وحيث إن نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية ما زال متعسرا، فلم لا يتم السماح بإنشاء الجمعيات الأهلية ذات الصلة بنظام الحماية من الإيذاء بشكل استثنائي؟ لماذا لا يتم السماح استثنائيا بإنشاء النقابات المهنية الصحية والتعليمية والقانونية والأمنية ذات الصلة بالتعنيف والإيذاء؟
كل ما ذكر أعلاه مبني على فرضية أن النظام لم يتم إقراره إلا بعد تقديم وزارة الشوون الاجتماعية تقريرا تحليليا عن واقع الإيذاء والتعنيف في المملكة، وهو الذي طالما كان وما زال مجهولا، فكل ما ينشر مجرد أرقام وإحصاءات تفتقر لأساسيات تحليل الواقع والمواقف. هذا التقرير المرجعي لا بد من نشره حتى يتسنى للمواطنين والمواطنات الشركاء في تطبيق نظام الحماية من الإيذاء الاطلاع عليه، ومن ثم المشاركة في قياس المؤشرات التي استخدمت بإصدار التقرير المرجعي.
أما في حال انعدام هذا التقرير المرجعي، فإن أهمية إيجاد الجمعيات الأهلية والنقابات المهنية ذات الصلة بالتعنيف والإيذاء تفوق أهمية إقرار اللائحة التنفيذية حتى يتسنى لهذه المؤسسات الأهلية تقدير واقع التعنيف والإيذاء في المملكة. التقرير المرجعي الذي ستصدره هذه المؤسسات الأهلية يعد مرجعا حيويا ولا غنى عنه كمرجع لقياس تأثير نظام الحماية من الإيذاء على معدلات التعنيف، ومن دونه فإن أي تغير وتأثير وإنجاز مستقبلي سيكون منحازا بشكل مضلل، لانعدام المرجعية القياسية المتمثلة بتقرير تحليل واقع التعنيف والإيذاء الحالي في المملكة. هذا الانحياز ضرره عظيم لأنه سيبنى على قياس مقطعي لواقع تعنيف لا يعلم ماضيه ولا توجهه المستقبلي، وبالتالي من الممكن تذييله بالنجاح لعدم اقترانه بمرجع ومن ثم يتم توزيع الخدمات وتقييم الاحتياجات على واقع مغلوط.
ما كان لهذا النظام أن يرى النور لولا الله ثم الأرواح التي قدمناها قربانا لإقراره، وكلنا أمل أن يسمح لنا بالقيام بواجب المواطنة مدنيا حتى نرد الجميل لتلك الأرواح التي طالما منعنا غياب النظام من نجدتها واكتفينا بالمشي في جنائزها.