كلما فتحنا الـ"واتس أب"، إحدى قنوات التواصل الاجتماعي، تجد كل فترة، إن لم يكن يوميا، مقاطع: "صفوا النية"، بعضها غث وبعضها مفيد.. بعضها يقهر وبعضها مضحك، ولكن جميعها تدور في محور النية وأنت إما تتأثر أو لا تتأثر... حسب النية! ورأيت أن أتحدث عن "النية" لأنها باعتقادي تؤثر على معظم الأحكام التي نطلقها على أقوال وسلوكيات الآخر من البعيد إلى القريب، والأهم التراجيديا اليومية التي تنبع كناتج يعكر علينا صفو حياتنا وعلاقاتنا بجيمع أنواعها.

يحكى أنه ذات يوم قرر المفكر الصيني الكبير "سو دونغبو"، زيارة معبد لمشاركة الكاهن "فو ين" في التأمل، وبعد قضاء فترة طويلة من التدريب، سأل رفيق التجربة كيف بدا وهو يتأمل، فأجابه "فو ين": "كنت بحالة جليلة للغالية"، ففرح "سو" بهذا الوصف كثيرا، ثم سأله الكاهن عن شكله وهو في حالة التأمل، فأجابه سو الذي كان يشعر برغبة مفاجئة في مشاكسته حينها: "كنت تماما ككومة من روث البقر!"، هنا لم يبد على وجه الكاهن أي تعبير بل إنه لم يرد بأي كلمة، فظن "سو" أنه تفوق على الراهب، وتقول القصة أيضا، إنه كانت للمفكر أخت تدعى "سو خيامي" كان لديها فكر يبحر ويتعمق في كل شيء، وعندما عاد "سو" إلى المنزل أخبرها بقصته مع الراهب وتباهى أمامها كيف أنه أسكت الكاهن عن الكلام، وبعد فترة من التأمل والتفكير خاطبت "سو خيامي" أخاها قائلة: "لقد خسرت يا أخي العزيز.. لقد رآك بقلب عابد.. وهكذا بدوت له، أما أنت فلقد رأيته بقلب يملؤه روث البقر!".. وهنا أدرك "سو" كيف أن الكاهن درب نفسه وطوعها على ألا تتخلى عن الطيبة النابعة من القلب حتى وإن تعرض للتعدي.

المغزى من القصة هو أنك ترى الأشياء من منطلق طهارة ونقاء نفسك، وعليه لن يخرج منك سوى الكلمات التي تبني وتدعم حتى حين يتعرض المرء لكلمات أو سلوكيات جارحة، فإن تنقية الروح وضبط النفس تظهر أرقى أنواع ردات الفعل... وأضيف هنا أنه لو أن كليهما كانا فعلا في حالة تأمل وتعبد وتركيز، لما استطاعا فعلا رؤية كيف كانت وضعية الآخر.. ولكن تلك قصة أخرى وموضوع ليوم آخر.

نعم، لقد قرأنا: "كل إناء بما فيه ينضح" المنسوبة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهي ما أجدها أقرب معنى للقصة من التراث الصيني، فالخبرات الإنسانية وعلى مر العصور هي نفسها، التنوع نفسه والمعادن نفسها، والقصص والعبر نفسها على اختلاف التراث والثقافة والمؤثرات، ولكن ما شدني هو الإضافة هنا؛ أننا لسنا فقط نتصرف حسب تربيتنا وأخلاقياتنا، بل أيضا كانعكاس لما تحمله أرواحنا من نقاء لدرجة أننا نترفع عن الرد على الإساءة بالإساءة حتى ولو من باب المزاح والمشاكسة، أصحاب القلوب النقية كثر.. يمرون علينا مثل الخيال، قد نراهم وقد لا نلتفت إليهم، لأننا ـ للأسف ـ نعدهم سلبيين.. ضعفاء.. دراويش، ولكن من ننتبه لهم ويؤرقنا وجودهم هم أصحاب الألسنة السليطة، والمقالب السخيفة، والفكر المتجمد، والتعصب الأعمى، والقائمة تطول وتطول.. انشغلنا بالرد ومواجهتهم أو الاستعداد لهم، شغلنا بـ"التنك" والصفيح عن رؤية لمعان الذهب!

نصرف أجمل أوقات الحياة في مراقبة الغير، وتحليل تصرفاتهم طبعا من منطلق رؤيتنا ومعايير خاصة نحن من وضعها، نحد من حرية، نسحب صلاحيات، نحرم فرصا، نحكم من منطلق تأثير أي تحرك يقوم به الآخر علينا وليس على نفسه، نسرع في قص الأجنحة كي لا يقع أحد فوقنا، نكمم الأفواه لكي لا يحسب ما يخرج منها علينا، ولو بيدنا أن ندخل أعماق فكر من هم حولنا لنقص ونلصق ما نريد... لن نتأخر! ندعي المثالية ونلبس أقنعة المدنية والتحضر، ولكن عند أول هزة، تسقط الأقنعة وتتعرى القلوب... كلا ليس دائما أمام الغير وإلا انفضح الكثير منا، ولكن أمام أنفسنا... والمؤسف حقا... المؤلم حقا... أننا لا نعترف بل نستدير ونرتدي غيرها!

لن نتغير... لن نرتقي... لن نفيد أو نستفيد من أي تطور... طالما أن جانبا مهما من حياتنا يعيش في تخبط... في ظلام! أهم خطوة... أشجع خطوة يقوم بها المرء منا هي مواجهة النفس، وحين تظهر لنا الشوائب لنقتلعها من جذورها... عملية مؤلمة أن تتخلى عن جزء من ذاتك... جزء لازمك أياما وليالي طويلة من حياتك، وتبدأ ببناء ثقتك بالغير واحترام اختلافهم وتنوعهم، لكن المؤلم أكثر أن تستيقظ ذات يوم ولا تجد غير هذه الذات بجانبك، وأنت لا تثق بها هي الأخرى... بينما رحل الجميع من حولك!