مصر أرض العجائب في كل شؤونها وأمورها، في ناسها وفقهها وأرضها وخيراتها، في تعلق الناس بها سواء كانوا مصريين أو غير مصريين، مسلمين أو غير مسلمين، عربا أو عجما، ولا أظن أن أحدا منا ـ إلا ما ندر ـ لم يتابع باهتمام أحداث مصر خلال الفترة الماضية، ملقيا بدلوه، مبديا رأيه، وأظن أن كثيرا منا اشترك بوعي أو دون وعي في تأييد أحد جانبي النزاع، وكثيرون منا اندفعوا نحو التصنيف ينسبون هذا للأخونة وذاك للانقلابيين، بل ووصل الأمر لحد وصف المحايدين أو الصامتين بأنهم متخاذلون.
الذي دفعني لكتابة هذا المقال، هو سؤال وجهه لي ابني الصغير "عمر" عن حدث معين في التاريخ، طالبا رأيي بشأن أشخاصه "المعتمد بن عباد ويوسف بن تاشفين"، فأجبته أن الحقيقة لا يعلمها إلا الله، وأن الحكم على الأشخاص ليس من شأننا، ولكن الذي يعنينا هو أخذ العظة والعبرة من الأحداث.
تماشيا مع نصيحتي لابني الصغير، فإنني أرى أن أحداث مصر جديرة بأن نتعلم منها، وأن ننظر إليها بعين الناقد البصير، فالسعيد من اتعظ بغيره، واستفاد من الأحداث حوله، وحيث إنني لا أميل لأي طرف من أطراف النزاع، فإنني آمل من القارئ الكريم قبل أن يتم باقي المقالة أن يوقف آلة التصنيف لديه، وألا يضعني في أي خانة سوى خانة الباحث عن العظة والعبرة والاستفادة من الحدث.
تعلمت من أحداث مصر الكثير، ومما تعلمته: أننا في عالمنا العربي ما زلنا بحاجة لمن يعلمنا أبجديات التعايش السلمي حين نختلف فكريا، وحين ننتمي لطوائف أو فرق متباينة. إننا في عالمنا العربي لا نستطيع العيش خارج القوالب الفكرية والتصنيفات الطائفية والفكرية، فبمجرد أن تعبر عن رأيك ستجد أنك قد دخلت في قائمة التصنيف بشكل مباشر، ولا تستغرب إن وجدت نفسك مصنفا في خانتين متناقضتين في ذات الوقت، ولهذا لا تأبه كثيرا للتصنيف وتحدث بموضوعية.
تعلمت من أحداث مصر، ومن متابعتي للأحداث أن كثيرا ممن يدعي التحرر والديموقراطية أكثر تطرفا وتعنتا في آرائهم وقمعيتهم ممن يسمونهم متطرفين. تعلمت من أحداث مصر أن هنالك فرقا بين الثورة والتغيير، فالتغيير يكون تدرجيا ويكون بالتركيز على المنهج الفكري للمجتمع والمنطق العقلي لأفراده، وهو ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم على مدار 23 عاما، وبينه لنا القرآن: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، أما الثورة فهي عبارة عن ردة فعل، ولهذا تكون على الأشخاص، ولكنها غالبا ما تبقى بذات العقلية التي ثارت عليها، وتكون نتائجها كارثية في كثير من الأحيان، وتتبعها ثورات متعاقبة عليها حتى يصل الناس لمرحلة التغيير والتطوير، ويكفي كي نتعلم ذلك مراجعة تاريخ الثورة الفرنسية.
أذكر أنني كتبت في "تويتر" حين قامت الثورة على مبارك: "كم من الوقت يا ترى سيحتاج المصريون ليكتشفوا أنهم يحتاجون لثورة على الثورة"؟ كنت أظن أنهم سيحتاجون 60 عاما أخرى مثل تلك التي احتاجوها منذ ثورة يوليو 1952، لكنني كنت مخطئا إذ لم يحتاجوا سوى عام واحد فقط.
تعلمت من أحداث مصر، أن السياسة ميدان يحتاج لمواصفات أخرى غير التدين، فالقدرة على الوقوف على المنابر لا تعني القدرة على قيادة الجمهور وإدارة شؤون الدولة الداخلية والخارجية، وتعلمت أن الدين أعز وأجل من أن يلعب به لعب الصولجان والكرة في ميدان السياسة، وتعلمت أن كون الداعية ذا جمهور لا يعني تماما أنه سياسي بارع، وأن من حقه الخوض في مجال يجهل طرقه الوعرة ودهاليزه الزلقة، وتعلمت أن المعرفة بالتاريخ لا تعني بالضرورة القدرة عى قراءة الواقع، ولهذا أدعو الدعاة والمشايخ من كل قلبي أن يركزوا في حديثهم على ما يفقهون ويعلمون، وأن يتركوا السياسة لأهلها، فمن تحدث فيما يجهل جاء بالعجائب (وفي هذه المسألة "بالمصائب").
تعلمت من أحداث مصر، ألا ترفع سقف التوقعات لدى الغير لتصل إلى ما تريد، فسقف التوقعات إذا ارتفع ولم يؤد صاحب الوعد موعوده، فإن السقف سينهار على رأسه وسيكون هو الخاسر الأكبر. وتعلمت من أحداث مصر أن يرتب الإنسان أولوياته للوصول إلى أهدافه، وألا يتيح الفرصة للمشتتات والمجاملات أن تأخذه بعيدا عن الأولويات.
تعلمت من أحداث مصر أن الكذب لا يصنع مجدا، وأن التلاعب بالقانون مهما كانت الغاية سينقلب على صاحبه وإن طال الزمن.
هذا شيء مما تعلمته وأتعلمه من أحداث مصر، وربما أكتشف أخطاء فيما تعلمته منها، ولكنني حتى ذلك الحين سأبقى متابعا بنهم؛ للاستفادة من الحدث لا لتقييم أشخاصه كما نصحت ابني.