هناك عبارة تمر بنا كثيراً وهي تتردّد على ألسنة الناّس سواء كانت قولا أو كتابةً وهي (آه على الزمن الجميل)، وتكاد تسمعها من معظم الأجيال، فهناك من يحنّ لأيّام (ما قبل) السّيارات والتّلفزيون والكهرباء والبيوت المسلّحة وغيرها من وسائل الحضارة والرّاحة، وتجده يردّد: لقد كان الزمن أجمل، حيث الطّيبة والصّدق والحميميّة والمحبّة، وهناك من يحنّ لبدايات الكهرباء والتّلفزيون والسّيارات وكيف كان التّعامل معها يجلب الكثير من السّعادة ممّا جعل ذلك الزّمن أجمل في نظره، وهناك من يحنّ للمسلسلات والمباريات والأغاني القديمة، وإذا ما شاهد شيئاً منها ردّد بحسرة (آه على الزّمن الجميل)، وهنا عدّة أسئلة: أين يوجد هذا الزمن الجميل؟ ولماذا لا تتّفق الأجيال على زمن جميل واحد؟ وما الّذي يجعل زمناً بعينه دون غيره جميلاً؟

في اعتقادي الشّخصي أن جمال الزّمن يأتي من عدّة جوانب، أوّلها: جمال المرحلة السّنيّة الّتي يعيشها الشّخص، وهي غالبا ما تكون مرحلة الشّباب، فالملاحظ أن الأجيال تحن دائما للزّمن الّذي عاشته شابّة، وفي مرحلة الشّباب عادة تتمتّع المشاعر والأحاسيس برهافة شديدة تجعلها ترتبط وجدانيّا بكل تفاصيل الحياة حولها، فمن يحن لمرحلة ما قبل الكهرباء والطرق المعبّدة والبيوت المغلقة – رغم صعوبة الحياة آنذاك – تجده عاشها شابا فارتبطت بها مشاعره وجدانيّا، متجاوزا المساوئ والصّعوبات ومركّزا على المحاسن، فأصبحت في عقله الباطن هي (الزّمن الأجمل). الثّاني هو: بدايات الأشياء فدائما الأشياء في بداياتها لها جمال الجدّة ودهشة الغرابة ممّا يجعلها تترسّخ في الوجدان، فمن يحنّ للبرامج والمباريات والأغاني والمسلسلات القديمة فإنّما يحن لها لأنّها كانت بداية معرفته بهذه الأشياء كلّها، وحتّى وهي مليئة بالأخطاء والبساطة بل والسّذاجة أحيانا، تظل في نظره هي (الزّمن الأجمل)، وهكذا. الثّالث: الرّاحة النفسيّة والخلو من الهموم والمشاغل والمشاكل، لا شك أنّ هذا يمنح الإنسان فرصة أكبر للارتباط بالأحداث الّتي تمر به ومعايشتها بشكل أعمق وأبقى، كبدايات الحياة الزّوجيّة أو ما يُعرف بشهر العسل، فهي من المراحل الأجمل في الحياة والّتي لا تُنسى، لأن الإنسان يعيشها بعمق ويحاول خلالها الابتعاد أو تأجيل كل مشاغله وهمومه الحياتيّة.

لكن هناك سؤال آخر، وهو زمننا الحالي بما فيه من أنانيّة بشريّة وتبلّد حسّي وحروب وفوضى إعلاميّة وصلت لحد تبادل مقاطع القتل بل الذّبح والمتاجرة بالحياة الخاصّة للنّاس وهبوط فنّي وصل لحد (بحبك ياحمار) وتعصّب رياضي مقيت وصل إلى قتل المنافسين وقطع علاقات الدّول، وانقطاع للتّواصل البشري المباشر وعقوق للوالدين وانكفاء على وسائل التّقنية الحديثة وغيرها، هل سيحنّ له أبناؤنا وإخواننا الّذين هم الآن في سن الصّبا والشّباب في يوم من الأيّام ويقولون (آه على الزّمن الجميل)! للأسف أن الإجابة تبدو بنعم، والدّليل أنّهم الآن مستمتعون به بكل ما فيه، فهناك من يسمع (بحبك ياحمار)، وهناك من يستمتع بالتّعصّب الرّياضي ويُؤيّد النّقّاد الرّياضييّن المتعصّبين مثله! وهناك من هوايته متابعة البرامج الفضائحيّة الّتي تعرضها القنوات التّلفزيونيّة، وهناك من حياته قائمة على وسائل التّقنية الحديثة، إذاً فهم قد ارتبطوا وجدانيّا بما يعايشونه بحكم المرحلة السّنيّة من أعمارهم أوّلا، وبحكم أنّهم عاشوا ويعيشون بدايات أشياء جديدة كثيرة منها، الفيس بوك وتويتر والواتس وغيرها، ومن هنا يبدو أن الزّمن الجميل مصطلح يُعبّر عن جمال الرّوح أوّلا وقبل كل شيء مصداقا لقول الشّاعر (كن جميلا .. تر الوجود جميلا).