في روايته الوحيدة والشهيرة (المتوحش) يصف مالكوم هاوكنز قبل ما يقرب من 150 عاماً أحداثاً وفصولاً من قصة نشاز واحد من الأعراق البشرية مع التناغم الأثير لبقية الأعراق والمجتمعات في جبال القارة الأميركية الجنوبية. يحاول صلب الرواية وقوامها البنيوي العام أن يقول إن مسيرة النوع البشري الإنساني حين تتطور وتكبر مع الزمن فإنها في ذات اللحظة تصارع للإبقاء في خزائنها بنماذج من عصورها المختلفة: من البدائي المتوحش إلى الوسيط القابع بين زمنين ثم إلى المستشرف الذي يقفز إلى الزمن القادم الذي لم يعشه ولم يصل إليه بعد. تماما مثلما تحاول متاحف الزراعة أن تحتفظ بأنواع من البذور الأولى للنبات في حياة هذا الكون، وأيضاً مثلما يجتهد علماء المحميات الطبيعية لإبقاء حياة نسر منقرض كي يكون جزءاً من الطبيعة؛ حتى ولو كان بدائياً يصعب عليه أن يعيش وأن يتأقلم مع زمن أو ظروف ليست له.
وفي رواية (المتوحش) لمالكوم هاوكنز، حاولت المجتمعات الحضرية إعادة تهذيب وإدماج ذلك الفصيل العرقي الشارد عن الزمان والمكان، وحاولت معه تجريب كل طرائق التوطين الحضاري كي يبقى في أفضل الأحوال محايداً ومستقلاً، بدلاً من أن يكون مسماراً شارداً في ماكينة اجتماعية هائلة وضخمة من حوله. وحتى في محاولات التجاهل والعزل، تكتشف هذه المجتمعات أن الفصيل الشارد في قلب خريطتها لم يعد حتى مجرد خطر على نفسه وذاته بل على كل المحيط الواسع من حوله. خاضت ضده عشرات الحروب ثم تكتشف أن نواميس الحرب ذاتها هي ذات كل نواميس الحروب على مدار التاريخ الإنساني، لأن الحروب تشد من قوام المهزوم وتعطيه المبرر وتصقل من عوده، فلا يوجد في التاريخ حرب أبادت عرقاً أو ألغت ديانة أو حجمت من انتشار مذهب، على العكس تخرج الفصائل المهزومة من حروب التاريخ وهي أكثر قوة. هربت معه أيضاً طرائق الإدماج كي يكون جزءاً من الركب الإنساني الحديث لكنها كلما تفاوضت معه تجد نفسها تصطدم بشرطه الأساس: أن يكون زعيم القبائل وأن يكون القائد بحجة أن الفصيل الابتدائي البدائي من المكون الإنساني في أي مكان لابد أن تكون له الريادة: المجتمعات البدائية دائماً ما ترى أنها حاملة الشرف الإنساني وحارسة النواميس البشرية ورافعة لواء العزة والكرامة في وجه التحديث والإحلال والتغيير وفي وجه الانحراف عن شكل المكون البدائي. وبعد خمسين عاماً من وسائل الاندماج ومحاولات التهذيب قررت هذه الفصائل توزيع أبناء الفصيل الشارد النشاز إلى محميات صغيرة في قلب كل جماعة أو فصيل. قررت أن تترك مكان هذا الفصيل الشارد عن السياق العام منطقة خالية من الوجود الإنساني فقد يكون المكان هو العلة. بالمناسبة فهذه الرواية لا تعكس أبداً ولا تصور قصة الهنود الحمر في قلب المجتمعات الجديدة.
لكن هذه الرواية الهائلة تذكر قبل قرن ونصف القرن حال هذا العام العربي وأحواله مع من حوله من الخريطة الأممية. خذ بالمقاربة أن الأرقام تشير إلى أن أعداد القتلى من العرب وبيد العرب في أسبوعين من العنف البدائي تفوق قتلى أعمال العنف في القارة الأوروبية في الخمسين عاماً الأخيرة (باستثناء حرب البلقان الأخيرة). في الأسبوعين الأخيرين قتل العربي بيديه أخاه العربي برقم يفوق قتلى العنف في أفريقيا خلال السنوات الخمس الأخيرة. ومع كذبة الربيع العربي تحول العالم إلى مسرح دموي مخيف لم يعد معه مجرد خطر على نفسه بل على كل العالم من حوله. وكل قصته مع الدم هي قصته أيضاً مع السلطة والحكم حين يظن الابتدائي البدائي أنه الأجدر والأكفأ لقيادة الأمة والمسيرة الإنسانية. وبقي من رواية مالكوم هاوكنز حلولها الأخيرة بعد محاولات الحروب والسلام. هل تستطيع خريطة هذا العالم الفسيح التي اتسعت لسبعة مليارات من البشر أن تستوعب 300 مليون إضافية كي نترك كل المساحة العربية محمية للرياح والرمل بدلاً من أن تكون مسرحاً للدم؟ هل يبدو العالم على استعداد للحل الأخير بترحيل بني يعرب ضيوفاً كراماً على قارات العالم ودوله وشعوبه؟