سألت الأمير خالد الفيصل ذات مساء أبهاوي، هل تشيخ الموهبة؟ فقال: نعم! ولكن حين قرأت نص "أبدت لنا الأيام" بوهجه وتقنياته المجازية، وخطابه الشعري، وتشكيلاته الجمالية، أحدث لديّ إحساساً دلالياً، فالنص نفح التفاتاته وقوته في تكثيف حي، واقتصاد تعبيري لا يتجاوز ثماني أبيات، فجاءت قطفة شعرية تكرس النزعة الإنسانية المستجيبة لحرارة التجربة وعمق الموقف التلاحمي، مما منح الأبيات حيوية وانصهاراً مع القضايا الكونية والانفتاح على الهم الوطني داخل الكينونة والمشهد المعاش. خالد الفيصل يملك حساسية شعرية عالية، ووعياً استشرافياً مستقبلياً، وقراءة ذهنية متجلية، من خلال عقله الشعري وعدسته المشحونة بالإيحائية، وفيض الخيال واجتراح الصورة الوجدانية، في صياغة مدهشة يتكىء عليها حين ينطلق في بوحه الاستنفاري، وتلمّسه للموجودات الحياتية، فالمتأمل لسيرته الشعرية وتجربته الإبداعية التي تجاوزت نصف قرن، يسمع صرخته المدوية ودعوته الأزلية للحياة، ورفضه تدمير جذوة الحياة ومحوها واستبدالها بالخراب والموت وفناء البشرية، يرفض الخطاب الرثائي والبكائي وانكسار الهزيمة والانحناء، ويمضي في الكشف والتعرية وفضح رؤوس الثعابين: أبدت لنا الأيام ماكان خافي _ وكل مدفونٍ على سطحها طف. وطاح اللثام وماعرفناه كافي _ وكل عينٍ بالعجب جفنها رف. لدى الشاعر قدرة عجيبة على الاستجابة اللحظية للحالة والمناخ المقروء، دون أن يسّطح القضايا أو يوهم بتضخيم الواقع، وتشويش الذاكرة والدخول في بهو الضجيج المفتعل، ولكنه يرسل عينه الفاحصة والمدربة والمستنطقة خارج حدود الرؤية القاصرة، ليبصر ما وراء "الأكمة" وما يخفيه غبار الأيام ومواسم الشوك: ولّيت يا طيفٍ ختلنا وطافِ _ سرى على الغافين بالليل والتف. أنعم من الحية على رجل حافي _ وأروغ من السايل على راحة الكف. ليست المرة الأولى التي يحمل خالد الفيصل مصابيحه ليضيء العتمات الموبوءة، ويهدم الأقبية الفاسدة، ويخلع الأقنعة السوداء عن الوجوه القبيحة، ويطرح الأسئلة الجوهرية، ويفكك الأحجية الملوثة، وكأن مهمته إيقاظ العيون النائمة، وإفاقة الأرواح المطمورة في مهاد الغيبوبة وعطن التكهف وخيبات العمالة: ظلٍ لغيره في ربوع الفيافي _ عارض عجاجٍ مر من غادى وهف. الشر واجد لكن الخير ظافي _ والعاقبة للي عن الساقطة عف. إن هذا النص بكل ما فيه من جاذبية وغنائية وسردية وثراء فهو انعطافة ودعوة لعودة الوعي "وعي الآخر" الخاضع لمطارق المزيفين والحاقدين وباعة الوطنية وتجار الحروب الكلامية: وما دام راس الناس شهمٍ سنافِى _ وشعبه رفيع الراس صف ورا صف. حنا لها حتى تعوّد عوافي _ وأرض الكنانة كل شر بها كف.