ثقافة المؤسسة، Enterprise culture هو مصطلح إداري تحليلي، يقصد به رصد الظروف والشروط الكيفية والنوعية، التي ترافق تأسيس المؤسسة وتم بناء قيمها الإدارية والتنظيمية والتوظيفية والسلوكية والتوعوية عليها من أجل التعرف على نقاط قوتها وضعفها، وفعل ما يجب فعله تجاه ذلك، من تدعيم نقاط القوة والقضاء أو محايدة نقاط الضعف قدر الإمكان. والمؤسسة هنا تعني أي مؤسسة من المؤسسات العامة أو الخاصة، من أكبرها، حكومات إلى أصغرها، مؤسسة خاصة صغيرة. الجيوش والتنظيمات السياسية الحزبية المدنية منها، وتلك التي لها أذرع عسكرية، السرية والعلنية منها؛ كلها يمكن إرجاع نقاط قوتها ونقاط ضعفها لحقبة تأسيسها الهيكلي وبنائها القيمي.

"حزب الله" كمؤسسة حزبية له جناحان، جناح مدني وآخر عسكري، كلاهما يقاد بقيادة واحدة؛ يمكن رصد نقاط قوته ونقاط ضعفه من خلال تتبع ثقافة التأسيس لديه، مثله مثل غيره من المؤسسات العامة والخاصة، كبيرها وصغيرها. ويجب ألا تقرأ ثقافة أي مؤسسة بمعزل عن محيطها العام، وموقعها بين باقي المؤسسات التي تعمل معها، سواء المزاحمة لها أو المتعاونة معها أو حتى المحايدة تجاهها. فالثقافة في الأول والأخير هي ما يجمع بين الذاتي والموضوعي، من سلوك وقيم ثقافية، حيث يختلط بعضها ببعض، ويصعب التفريق بينها في أحيان كثيرة.

المشرق العربي منذ نهاية الحرب العالمية الأولى 1920، وهو يعاني من فراغ استراتيجي، كل القوى المتصارعة في العالم، على العالم، تحاول أن تجد لها قاعدة أو موطئ قدم فيه؛ خاصة مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وبداية الحرب الباردة 1948. حيث اندلاع الحرب الأهلية في اليونان، وخوف الغرب من سقوطها بيد القوى اليسارية الحليفة للاتحاد السوفيتي حينها؛ ولذلك أعلن الرئيس الأميركي آنذاك هاري ترومان، مبدأه الشهير، مبدأ ترومان، الذي يتضمن دعم أميركا بالمال والسلاح لأي بلد في الشرق الأوسط يتعرض لتهديد من القوى الشيوعية أو اليسارية. وبما أنه لا توجد دولة عربية تستطيع ملء الفراغ الاستراتيجي في المنطقة؛ قام الغرب بتكوين إسرائيل ودعمها، لتصبح قاعدة له، تمثل خط دفاعه الأمامي ضد أي غزو سوفيتي للمنطقة، حيث المنطقة تمتلك في باطنها أكبر مخزون استراتيجي للنفط، اعتبره الغرب احتياطا استراتيجيا له حتى نهاية القرن العشرين. وهذا السبب المباشر لدعم الغرب بقوة وجدية لا يستهان بها لإسرائيل أثناء حروبها مع الدول العربية.

ومثلما يعاني المشرق العربي من الفراغ الاستراتيجي، يعاني لبنان أيضاً من فراغ أمني داخله؛ حيث صلاحيات حكومته موزعة بين جميع الطوائف في لبنان، وكل طائفة تخاف الأخرى، إن لم نقل تناصبها العداء؛ وهكذا أصبح لبنان منذ النشأة يعاني فراغا أمنيا، لغياب حكومة قوية وفاعلة فيه تضبط أمنه الداخلي وتحميه من أي عدوان خارجي. الجيش اللبناني، رغم ما حققه من انتصارات مبهرة في جبهة قتاله ضد إسرائيل في حرب 1948، بعكس الجبهات العربية الأخرى؛ تم فرض شرط غربي على لبنان، وذلك حماية لإسرائيل، بأن يتم تحجيم الجيش اللبناني، عدداً وتسليحاً وعقيدة عسكرية، وهكذا تم إخراج الجبهة اللبنانية من الحرب بين العرب وإسرائيل. والشرط هذا على لبنان، فرض مقابل استمرار تدفق المساعدات الغربية له.

وبسبب هذه الظروف أصبح الجيش اللبناني غير قادر لا على ضبط الأمن داخله ولا على الدفاع عن لبنان من اعتداءات تأتي من خارجه. حيث منع الجيش اللبناني من امتلاك مضادات جوية أو رادارات متقدمة، وأصبح في وضع المتفرج على ما يدور داخل بلاده من الانفلاتات الأمنية، والاعتداءات الخارجية على حدوده، بدون حول له ولا قوة؛ مما جعل قياداته وخاصة ضباطه الميدانيين، متوسطي الرتب وما دونهم، يتجرعون المر، ليس فقط على حال بلادهم، وإنما أيضاً على حالهم.

هنا أصبح لبنان مرتعا سهلا وخصبا لكل القوى الدولية والإقليمية التي تتصارع على ملء الفراغ الأمني فيه. إذاً فلبنان يعاني من فراغين، فراغ استراتيجي يحيط به وفراغ أمني داخله ليس لديه القدرة لأن يحتاط منه. وعلى هذا الأساس نشبت عدة حروب أهلية داخل لبنان، شارك فيها القريب من لبنان والبعيد عنه، ولم يكتو بنيرانها سوى اللبنانيين أنفسهم.

عندما بدأ يتشكل حزب الله عام 1982، عام غزو إسرائيل للبنان؛ كانت لبنان تمر بأكثر أوقاتها فوضى وقسوة ووحشية، خلال حربها الأهلية الطاحنة. كانت أذرع جميع الاستخبارات للدول الكبيرة والمتوسطة منها كذلك متواجدة داخل لبنان، وكل منها يدير عملياته لضرب خصومه، وإخراجهم من الساحة اللبنانية، وبنفس الوقت، يحاول كشف نوايا خصومه وتفادي ضرباتهم له، ليؤمن بقاءه مدة أطول في لبنان. وعلى هذا الأساس، أصبحت الأموال تنثر بسخاء يميناً ويساراً، لشراء الذمم وتجنيد العملاء داخل لبنان مهما كان سعرها مرتفعاً، وبالتحديد داخل كل حزب أو طائفة أو تنظيم. الاغتيالات السياسية والتفخيخ والتفجير، كانت حوادث اعتيادية شبه يومية تقع هنا وتضرب هناك. وداخل هذه الظروف الصعبة والمعقدة؛ تم تشكيل حزب الله.

كانت الأحزاب والمنظمات التي تنتمي لطائفة معينة، تمتلك شرعيتها من خلال عدد المنضوين داخل صفوفها من المنتمين لطائفتها التي تحرص دوماً على أن تقدم نفسها بأنها الممثل الوحيد والشرعي أو الرئيسي لطائفتها، وذلك من أجل الحصول على المساعدات الخارجية وحدها دون غيرها من أحزاب وتنظيمات الطائفة، وبنفس الوقت تطرح نفسها الممثل الوحيد، أو على الأقل الرئيسي، لمصالح واستراتيجيات امتدادات مثيلها الطائفي في الخارج، دون غيرها من أحزاب ومنظمات الطائفة. وهنا أصبح التجنيد في الأحزاب والتنظيمات الطائفية مفتوحا على مصراعيه، دون قيد أو شرط، مما خلق داخلها هشاشة في الهيكليات الإدارية، وعدم تجانس الدافع السياسي، رغم التجانس الطائفي، وكانت قابلية الانشقاقات الداخلية فيها ممكنةً ومتاحة في أي وقت، وكان العمل لصالح الغير، ولو كان خصم الطائفة أو حتى عدو لبنان الأول ممكنا من أجل المال، وإما من أجل التوجه السياسي الأيديولوجي. أصبحت الحرب داخل الطائفة الواحدة في كثير من الحالات أشرس منها مع الطائفة الخصم. كما أصبح القتال بين بعض الطوائف وبعض أشرس من قتالها ضد العدو الإسرائيلي. وأصبح تبديل بعض أحزاب الطوائف مواقعها من تكتل طائفي إلى آخر سمة من سمات السياسة في لبنان.

إذاً هذه حال الكثير من الطوائف، التي تتقاسم مقاعد رئاسة الوزراء في الحكومة اللبنانية، خلال الحرب الأهلية والآن، مما جعل الحكومة حلبة ضيقة للصراعات الطائفية داخل لبنان؛ بدل أن تكون ساحة رحبة لحلها. وعليه أصبحت الحكومة اللبنانية حكومة طوائف متنازعة، غير قادرة على أخذ قرارات استراتيجية عليا لحفظ الأمن الداخلي اللبناني، ناهيك عن ردع أي اعتداء خارجي عليه. وفي ظل هذه الفوضى اللاخلاقة في لبنان؛ صنع حزب الله له منها، ظروفا خلاقة، جعلت منه أقوى حزب في لبنان، وجعل الجيش اللبناني منه حليفا داخلياً يعتمد عليه، بدل البحث عن حليف خارجي في حال ضبط الأمن الداخلي أو ردع الاعتداء الخارجي. للمقال تكملة قادمة.