الحملة المسعورة التي يتعرض لها القرآن الكريم بشكل خاص، والعلوم الإسلامية بشكل عام هذه الأيام، تندرج في إطار فوبيا مزعومة، مستولدة عن نظرة مستعلية، وسلوك متغطرس، ونهج مادي أفرزته الحضارة الغربية المعاصرة، إزاء تعاملها التجريدي مع الحقائق الغيبية، ومنها بالطبع الوحي الإلهي للنص القرآني، وما ترتب على هذه المنهجية المادية التجريدية من استهجان لمنهج النقل في تناول العلوم والمعارف، باعتباره يعطل حرية المنهج العقلي في الاستدلال.

ويأتي هذا الاستهجان المنفلت، في إطار نشاط معاصر تمارسه نخب حداثوية في الغرب، يؤازره هوس ملحوظ من بعض الدارسين العرب في الغرب، وانبهارهم بما أبدعته الحضارة الغربية من وسائل، وأدوات بحثية تفكيكية، حيث بدأ هذا المنحنى يأخذ مسلك دراسات نقدية هدامة غير منصفة، في محاولة بائسة لأنسنة النص القرآني الكريم، والحديث النبوي الشريف، بتوظيف تلك المنهجيات الحداثوية المعاصرة، التي لا تتفق أصلا مع منهجية البحث في العلوم الإسلامية، وإقحام العلم المعاصر بكل أدواتياته، وبشكل غير محايد في هذه العملية الاستهدافية، وهو أمر غير مقبول أخلاقيا، ولا مستساغ حضاريا بتاتا، ويعتبر تعديا صارخا على قدسيات النصوص الدينية، ناهيك عن كونه خروجا مقرفا على مبدأ الحياد الأخلاقي في البحث العلمي المنصف، حيث يفترض أن تتطابق أداة البحث ومنهجيته، مع غرض البحث، وصولا إلى الحقيقة المنشودة بسلامة قصد، تمشيا مع ذات القاعدة المعاصرة التي تقول: (إذا سمحت لي أن أضع الضوابط، فلا يهمني عندئذ من يتخذ القرار).

على أن من الضروري التصدي لهذا النهج المشبوه، بالتأكيد ابتداء، على أن الباحث، أو الناقد، هو قارئ نص، وليس مبدعا له، وبالتالي فإن عليه عندما يريد التنقيب في النص الديني القرآني، أو الحديث النبوي، أو القواعد الأصولية الفقهية، أن يحاول الاقتراب من مرادات تلك النصوص على حقيقة ما أراد منها منشئها بشكل محايد، توخيا للموضوعية، وذلك بأن يتدبر مغزى تلك النصوص بشيء من التأمل المتطلع، تمشيا مع سياقاتها، ومراعاة لأخلاقيات منهج البحث في المعرفة الإسلامية، حتى قبل أن يلجأ إلى ما بحوزته من أدوات، لا مندوحة له من الرجوع إليها، إن كان لا بد له من ذلك، لا سيما إذا تعسر عليه التدبر، وشق عليه فهم مدلولات النص، بعد أن يكون قد قام بالاطلاع على ما تراكم أمامه من معرفة شاملة متاحة في هذا الجانب، لتوسيع دائرة الإلمام اللازم للتطلع، والتدبر، والاستنتاج الرشيد، وزيادة القدرة على الترجيح إذا لزم الأمر، من دون غرض يعطل طاقاته الذاتية في استكناه مدلولات النص قيد البحث، وما يزخر به من معاني، بالانسياق المتهافت إلى توظيف تكنيك التفكيك المجرد، الذي قد يحول دون الوصول إلى الفهم اللغوي العربي الفصيح للنص الديني الإسلامي بهدم قواعده، مما يفسد على الباحث، والناقد ذائقة التأمل، ويختزل فيهم قدرة التمكن من الفهم الصحيح للنص، واستكشاف الصور الزاخرة، والدلالات الكامنة في ثناياه، التي تنساب رؤى متجددة مع كل قراءة واعية، تتواصل مع تقاليد نهج التدبر المستمر للنص، المحكوم بضوابطه المعتمدة نقلا وعقلا في منهج المعرفة الإسلامية وبشكل خلاق حتى تقوم الساعة، فيحرم نفسه عندئذ، ويحرم الآخرين معه، من فيض العطاء الإلهي اللامحدود، الذي يختزنه النص المجيد، الذي يفترض أن المخاطب به مستخلف في الأرض ابتداء، لإدامة تفجير مكنوناته بالتدبر المتطلع، المؤطر بما هو متراكم أمام الباحث من معرفة إسلامية كلية، تضمن تأمين تدفق النص بتجليات مستمرة من فيض المعاني الزاخرة، التي تقتضيها متطلبات التطور على الأرض، ملامسة بذلك الاستكناه السليم، اقترابا متجسدا من مرادات النص الإسلامي على أكمل وجه، وعدم مصادرة سلطة النص، وليّ عنقه باستنطاق متعسف، وفقا لغرض الباحث أو مآرب الناقد، بذريعة وجوب مطاوعة النص لأكثر من قراءة.

ولمواجهة حملات كتابات الإساءة المعاصرة إلى منهج المعرفة الإسلامية، سواء بالتعرض المتعمد للنص القرآني بالنقد بغير منهجيات علومه، أو بالإساءة إلى المتراكم من إبداعات رموز المعرفة الإسلامية مرة أخرى، فإن المطلوب من المهتمين بالمعرفة الإسلامية، من المؤسسات، والجامعات، ومراكز البحوث، والمجامع الفقهية، ومؤسسات الفتوى، والدعاة والمفكرين، والكتاب المختصين بالعلوم الإسلامية، التصدي الحازم لهذه الإساءة، وفضح مقاصد القائمين بها بالحجة العلمية المقابلة، وذلك من خلال ترسيخ معايير أكاديمية صارمة لمنهجيات التناول للمعرفة الإسلامية، والعلوم الشرعية، واعتمادها كاستراتيجية عامة في الدراسات الإسلامية المعاصرة في الجامعات، والمعاهد الإسلامية من دون تردد، ورفض أسلوب تناول النصوص الدينية الإسلامية بأدوات غريبة عن علومها، ومنهجيات طارئة في دراستها، لا سيما وأن الموروث العلمي للمعرفة الإسلامية زاخر بإبداعات رصينة،لا يقلل من قيمتها العلمية، افتراءات المناهج المادية للعلوم المعاصرة، بأن منهجيتها غير حركية، وأنها ذات صفحة واحدة في الحساب بزعم أن قاعدتها نقلية، وتحد من إبداعات العقل في الاستنتاج.