الهوية مركّب هلامي يظل يتفاعل مع الإنسان طيلة أيام حياته، وهذا المركّب يبدأ قبل الولادة، فعقيدة ولغة ومكان الوالدين حاضرة قبل أن يرزقا بوليدهما، الذي سيصطبغ بهذه الهوية فور ولادته، ثم تبدأ الإضافات التي يكتسبها الفرد من مجتمعه حتى تتشكل هويته أو لنقل "هوياته". وبالحديث عن الهوية في تعرجاتها العقدية والإثنية والقومية يصطبغ الكائن البشري بعدة صِبغ؛ تظل تتلون حتى يقرر هو الصبغة النهائية بانتمائه إلى مجموعة بعينها، يؤمن ويروج لأفكارها ويدافع عنها حسب درجة إيمانه بتلك الأفكار، ولعل من المعقول بعد هذه المقدمة الثقيلة أن أدلف إلى ما يجول في نفسي وأود الحديث عنه في مجتمعنا العربي. كلنا نشترك في اللغة والمعتقد والثقافة والوطن، لكننا نتفرع عندما نصل إلى الصبغة الهوية التي تحددها الجماعة، وهنا تبدأ معضلة "التصنيف" البيئية التي تمثل البؤرة الحقيقية للصراع الهووي بين الجماعات، فتحاول كل جماعة تجنيد منتسبيها في نجدين يغيب عنهما ثالث، فالنجد الأول: الهجوم. والثاني: الدفاع. فإن وجدت إحدى الجماعات فرصة الانقضاض لم توفر الجماعة الأخرى، وتلك الأخرى ستفعل مثلها، لكنها الآن في موقع الدفاع الذي لا يخلو من هجومات الانتقاص والتهم، وهكذا دواليك يستمر الدولاب في تدحرج أعماه التعصب تبعا للمثل الشعبي "مخطي مع ربعك، ولا وحدك مصيب"!! غياب الثالث "الالتقاء" بين الجماعات هو المؤزم الرئيس لمرحلتنا الحالية، وقد أفنى الدفاع والهجوم لاعبي الساحة، وفتت جهودهم في قضايا لا تقدم للوطن شيئا، ولا تسجل في تاريخ الجماعة إلا عبارة "نحن هنا!"، وأي مشروع يكتفي بهذا النصيب من النجاح، فلن يتذكره التاريخ، إلا كما يتذكر الشاب المتعافي "زكامَ" الطفولة. "الالتقاء" الذي يحاول "الحوار" تأسيسه، ويحاول الطرح "الوسطي" ـ أيضا ـ تأسيسه يغيب خلف سديمية النوايا، وازدواجية المواقف، فكأن قناعة المتحاورين بفكر جماعاتهم تحول بينهم وبين الالتقاء، فلا يعدو الحوار "جدلا" أو مجاملة اجتماعية ريثما يعود المتحاور إلى الجماعة، ويعلن براءته من إثم مجاملات الجماعة الأخرى، أو اعتبار التحاور مناورة لكشف الآخر وتعريته، والمؤسف حقا أن "الوسطية" لم تصطبغ بهوية خاصة، فأنصارها على كثرتهم، مذبذبون بين طرفي النقيض بدلا من تشكيل دوامة تصهر في عمقها الجميع، فيزهر الوطن.