مجتمعنا المحلي، والمجتمعات من حولنا في حاجة ماسة للتذكير المستمر بعواقب الفوضى، والفتنة، وفي حاجة ماسة أيضًا إلى تذكيرها بأن الأمن هو من أهم القيم العليا في الفقه والفكر الإسلامي.. الظروف المحيطة، والنزاعات المعاصرة أكدت ـ بما لا مجال للشك فيه ـ أن الأمن اليوم ـ وأمس وغدا وبعده ـ من أهم ضرورات السلم الاجتماعي، وأنه لأجل أن تنعم المجتمعات به؛ لا مفر من أن تكون محررة مما يسبب عكسه، وأهم ذلك (الاستبداد بالرأي)، ومن أهم مصادره (السلطة الفاسدة)، وبالأخص تلك المتسترة برداء التدين أيًا كان الانتماء، أو الدين.

السلطات الفاسدة جعلت وتجعل أمنها وأمانها محصورًا في محددات خاصة بها، ولو كان ذلك على حساب مجتمعاتها.. فلا عدل، ولا حق، ولا حكمة، ولا مساواة، ولا اكتراث بالغير، والناتج فوضى عارمة وفتنة عامة ـ والواقع شاهد ـ .. الأمن نعمة من النعم الإلهية الكبرى، والطريق إليه يكاد ينحصر في (سلطة صالحة)؛ لا تعرف الاستبداد بالرأي، وتنكر أي ضد للإخاء، والتعاون، ولا تشيع التناحر، أو تتعمد (التسقيط) ـ النيل من الآخرين أمام الرأي العام ـ.

لا شك أن الشعوب تتحمل ملامة عدم تحقيق الأمن، لكن الملامة الكبرى تقع ـ وبدون جدال ـ على من بيديه المسؤولية والسلطة.. إن فساد السلطات والحركات الفاسدة ينبع من كونها ـ كما ذكرت آنفًا ـ لا تعرف إلا الاستبداد؛ فصلاحياتها محصورة في أفرادها، وأفرادها تبع لمن فوقهم. همهم الأكبر تعميق ولائهم الخاص، ومصالح أهاليهم وعشائرهم لا غير، والمصيبة الكبرى أن هذه الأهداف مصيرية عندهم، ولا بد من تحقيقها ولو كانت على حساب حرمان المجتمعات من الأمن.

مقولة في غاية الدقة والروعة منسوبة إلى سيدنا علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وتستحق أن تكتب بمداد العيون ـ كما يقولون ـ وهي: "لا حياة لخائف"؛ ولشرح هذا القانون، وهذه القاعدة تضيق مساحة هذا المقال.. لما تولى سيدنا علي مقاليد السلطة كان من أول ما فعله أن كتب إلى واليه على البصرة سيدنا عبدالله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : "اعلم أنّ البصرة مهبط إبليس، ومغرس الفتن، فحادث أهلها بالإحسان إليهم، واحلل عقدة الخوف عن قلوبهم.." ليبين ـ رضوان ربي عليه ـ أن السلطة ـ الصالحة غير المستبدة ـ هي من تنزع الخوف من قلوب الناس، وتحفظ الأمن، وتشيعه بين المجتمع، وليست هي المتسلطة، والمنكفئة على بعض دون بعض، وليبين أن الخوف من أكبر الأزمات، وأن الإنسان بخوف، وبلا أمن يفقد طعم الحياة، وتتحول دنياه إلى شقاء وعذاب.

مأساة فقدان الأمن لا تعادلها مأساة، والتحريض على الوصول للمراد عبر الفوضى لا يزيد الناس إلا شقاءً وألما، وبناء الحضارة إنما يكون بالدرجة الأساس على أساسين مهمين هما قوله تعالى شأنه: {الّذي أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف}، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافًى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنّما حيزت له الدّنيا".. الأسطر الأخيرة في مقالي هي في تأكيد الدعوة إلى حماية الناس من المتربصين بالأمن وبالأخص من هم بداخل الأوطان قبل من هم خارجها، فالأمن أحد أهم ركائز الحياة، وعنصر هام في الاستمتاع بها، ولا مناص منه في تطور الناس وترقيهم.