-1-

كانت دول قوات التحالف للعراق تتوهم وتحلم عام 2003، بإقامة نظام ديموقراطي، من خلال غزوها للعراق، على غرار ما تمَّ بعد الحرب العالمية الثانية في اليابان، وألمانيا، وكوريا، وفي التسعينات في البوسنة والهرسك. ولكن هذا الوهم، وذاك الحلم، أثار موجة من الاستياء، والاستكبار، والتعالي، والرفض المطلق، في معظم أنحاء العالم العربي لمجيء "الأساتذة الأميركيين والبريطانيين" لفتح "مدرسة للديموقراطية" - كما يدّعون - تكون ذات جهاز أكاديمي متكامل، بعد أن تم إغلاق هذه المدرسة منذ نصف قرن ويزيد، على يد المؤسسة العسكرية العربية والمؤسسة البعثية.

صحيح أن العراقيين - بالذات - كانوا من آباء الديموقراطية، ومن أساتذتها في العالم العربي، وهذا حق، فالعراقيون هم الذين انتخبوا الملك فيصل بن الحسين (1885-1933) عام 1921.

والعراقيون كانوا من أوائل العرب، الذين شكلوا مجالس الأمة، وانتخبوها، والتي عُرفت في العراق في العشرينات بـ "المجلس التأسيسي" وكان أبرز أعضائه ياسين الهاشمي. وقام بكر صدقي (1885-1937) بأول انقلاب عسكري في العالم العربي عام 1936 للمطالبة بالإصلاحات السياسية. كما قام رشيد عالي الكيلاني (1893-1965) بثورته عام 1941 لترسيخ العدالة والديموقراطية في العراق.

-2-

ولكن مسيرة الديموقراطية بدأت تتعثر في العالم العربي، عندما سطت المؤسسة العسكرية على نظام الحكم بعد الاستقلال، فبدأ الاستغلال. وتعطلت الحياة الديموقراطية قرابة نصف قرن. ومن بين أكبر مظاهر هذا التعطل فوز بعض الحكام بالانتخابات بنسبة مئة بالمئة جهاراً نهاراً، دون خجل أو حياء، حيث سيق الناس إلى مراكز (الاتباع) وليس إلى مراكز (الاقتراع) سوقاً كما تساق الأنعام إلى موارد المياه.

وخلال نصف القرن العشرين، أُغلقت مدارس الديموقراطية العربية، وبعضها خلت من أساتذتها، وبقي الطلبة ينتظرون مدرسي علم وفن الديموقراطية طوال نصف قرن من الزمان. بل كاد الشعب أن ينسى، أو بالأحرى، استطاعت (العسكرتاريا) والحزبيون الديكتاتوريون (البعثتاريا) أن يجبروا الشعب بالحديد والنار على نسيان علم وفن الديموقراطية، واستحدثوا مكان هذا العلم وهذا الفن سحر صناعة الديكتاتورية، وكان أبرز هذه الصناعة، وأبقاها، وأعتاها، وأكثرها جبروتاً الديكتاتورية البعثية في سورية والعراق.

-3-

وحين نصَّب الأميركيون أنفسهم أساتذة لهذه المدرسة، بدءاً من عام 2003، كما نصبوا أنفسهم معلمين ومدرسين في القرن التاسع عشر في لبنان، من خلال البعثات التبشيرية الأميركية، التي ما زالت مظاهرها العلمية قائمة إلى الآن، في "الجامعة الأمريكية" ببيروت وغيرها، وتبرعوا بالتدريس في هذه المدرسة، قامت الدنيا ولم تقعد في العالم العربي من اليمين واليسار.

ولكن جاء فريق من المفكرين العرب الشجعان، وقالوا بضرورة الاستماع إلى أساتذة الديموقراطية الجُدد، وكانت حجة هذا الفريق في ذلك تتلخص في:

1- لماذا قبلت فرنسا، في الحرب العالمية الثانية، أن يدخل ديجول (بطل التحرير) على ظهر دبابة أميركية وبريطانية، لكي يحرر فرنسا من الاحتلال النازي، حين عجزت المقاومة الفرنسية عن دحر الغازي النازي؟ ولماذا قبلت اليابان، وألمانيا، وكوريا الجنوبية، والبوسنة، والهرسك، التطبيقات "الديموقراطية" القادمة من الخارج، ولم يشعروا بالغبن، والظلم، والحرج، ولم يتعالوا، ويستكبروا أن يكونوا تلاميذ نجباء في مدارس الديموقراطية الأميركية - إن وُجدت - في حين أننا نتعالى، ونستكبر، وننتفخ كالطواويس أمام كل فكر، وكل منهاج جديد في مختلف ميادين الحياة، وكأننا قوة القوى العظمى في كل المجالات، في حين أثبتت تقارير التنمية البشرية السنوية التي صدرت عن الأمم المتحدة منذ عام 2002، أننا شعب في قاع العالم، وأنه لا يوجد شعب متخلف أكثر منا، غير سكان الصحراء الجنوبية الأفريقية؟

2- أنه لا عيب ولا تثريب علينا نحن العرب إن كنا لا نجيد فنا، أو علماً حديثاً ومتقدماً، من علوم وفنون السياسة كالديموقراطية من أن نتخذ لنا أساتذة من الغرب، كما نتخذهم في علوم أخرى كثيرة نجهلها، سواء في مدارسنا ومعاهدنا، أم في مدارس الغرب ومعاهده.

3- وما هو المنطق السليم، في أن يتوافد الطلبة العرب على معاهد الغرب لدراسة العلوم السياسية والتاريخ السياسي والتمثيل السياسي، ولا تقبل الشعوب العربية بمعلمين غربيين يأتونهم لديارهم ليعلموهم فن وعلم الديموقراطية، بعد أن فشلت الأحزاب السياسية في أن تقوم بدور المعلم الديموقراطي للشعب، وبعد أن فشلت الانقلابات العسكرية والمؤسسات العسكرية التي حكمت جزءاً كبيراً من العالم العربي في أن تقوم بدور المعلم الديموقراطي الخبير، والناصح، والمطبّق. وبعد أن فشلت المعارضة أخيراً، لكي تقوم بهذا الدور.

4- ولماذا كانت معظم مواد "الدساتير" العربية، والتشريعات السياسية، والقانونية، والاقتصادية العربية، مأخوذة حرفياً من الدساتير الغربية، والتشريعات السياسية الغربية، والقوانين الغربية، والفرق بيننا وبين الغرب أنهم طبقوها بجدية، وقالوا: "لا أحد فوق القانون"، أما نحن فقد زوّرناها، وتلاعبنا بها، وأخضعناها لأهواء الحكام المفسدين في الأرض وقلنا: "لا أحد تحت طائلة القانون". وعندما بلغ السيل الزُبى، وخشي الغرب على مصالحه من سوء هذه الأعمال، وأراد وضع القوانين والأنظمة في نصابها الصحيح وبالقوة، لضمان مصالحه المتعددة، فزعنا، وهجنا، وطلبنا الرحمة؟

ونكتفي اليوم بهذا القدر من الحجج، لمحدودية المساحة المخصصة لهذا المقال، وسوف نتابع سرد بقية الحجج في الأسبوع القادم إن شاء الله.