لا علم إلا بسؤال، فالسؤال هو محور العلم، أو قل: هو مصدر المعلومة الرئيس، وبقدر جودة السؤال تكون جودة العلم، بل إن السؤال هو المصدر الأساسي للاختراعات التي غيرت وجه البشرية، وإذا ما تتبعت كل اختراع في الدنيا وجدت أن وراءه سؤالا ذكيا صادرا من عقل ذكي.. فسؤال إسحاق نيوتن، الذكي في القرن السابع عشر عن سبب سقوط التفاحة على الأرض وعدم طيرانها في السماء، أدى إلى واحد من أهم الاكتشافات في علم الرياضيات والفيزياء التي غيرت وجه البشرية. وسؤال الطفل الألماني في عام 1660 عن سبب ارتفاع غطاء الإبريق بواسطة بخار الماء الساخن كان بداية اكتشاف الطاقة، وذلك بصنع الآلات البخارية في مجال المواصلات وضخ المياه، وفي المجال الجنائي يعتبر السؤال هو الفيصل في القضايا الجنائية، والسؤال هو الأداة الفاعلة في خوض الحروب الكلامية وكسب جولات الحوار أو الجدل، وهو الذي يخشاه الناس في كل وقت وزمن، وبه ينجح كبار القوم في إدارة أقوامهم، وفي هذا المعنى يقول أبو هلال العسكري، في كتاب الصناعتين: "ولو أني جعلت أمير قومٍ، لما قاتلت إلا بالسؤال، فإن الناس تهاب منه، ولو ثبتوا بإطراف العوالي".

وقد ورد السؤال كثيراً في الفلسفة الإغريقية كواحد من أهم أدوات المجاز "Tropes"، تحت اسم "interrogation".. وتحدث عنه سيشرون "Cicero" في كتابه "رسالة إلى الأمير: "Ad Herinium"، الذي ألَّفه عام 80 قبل الميلاد باللغة اللاتينية وتمت ترجمته إلى اللغة الإنجليزية، وقال فيه إن السؤال هو محور الارتكاز للمراجع المعرفية: "Authority" بأركانها الثلاثة: التجربة والمثال والأحداث، وفي العلاقات بكل أشكالها وألوانها ومستوياتها ليس هناك ما يمكن الخوف منه أكثر من الخوف من السؤال، حتى إننا في عصرنا الحاضر قد ربطنا كلمة "سؤال" بالمخالفات حتى أصبحت هذه الكلمة مصدر ذعر وتهديد للعاملين في كل مجالات العمل وأنواعه، وذلك عن طريق المصطلح المتعارف عليه: "مساءلة"، وتنتاب المرء حالة من الارتباك عندما يقال له تم السؤال عنك، كما ينتاب المرء الذي يتعرض لظروف خاصة حالة من الفرح عندما يقال له: سألوا عنك، ولهذا فالسؤال في الحالة الأولى يدخل في الحالات التي تحدث عنها أبو هلال العسكري، في الجانب الذي قد يسمى تجاوزا: الجانب السلبي، وفي الحالة الثانية الجانب الإيجابي، ويدخل في الجانب الأول استخدام السؤال في كسب الجولات في الحوار وكسب القضايا في المحاكم، لأن البارع في استخدام أداة "السؤال" لا شك أنه سيكسب جولات الحوار وسيكسب القضايا التي يترافع عنها، لأنه يستطيع توظيف هذه الأداة بشكل جيد في ضرب الأمثلة وطرح التجارب وسرد الأحداث، الذي قال سيشرون إنها الشروط الثلاثة في دعم الحجج ودحض الادعاءات، وفي "الجدل" وهو من المواضيع الريئسية في الفلسفة لا يمكن كسب أي جولة دون توظيف السؤال، وتوظيف السؤال أيضاً يتطلب دراية حتى يؤدي إلى كسب الجولات، والسؤال في الجانب الذي أسميناه "سلبياً" تماماً مثل السلاح المستخدم في الحرب، كلما استخدم ضعف الطرف المقابل، وعلى الجانب الضعيف في الطرف المقابل يتم التركيز وتكثيف السؤال تماماً مثل الطعن على نفس الجرح حتى يزداد الوجع ثم الانهيار، ويقول سيشرون في طريقة الأداء، إنه لا بد من إعداد الأسئلة في الذهن واستدعائها بشكل سلسل ومن الأهم إلى الأقل أهمية تماماً مثل استدعاء الأفكار، بحيث تتصور وأنت تطرح الأسئلة أثناء الجدل أنك في المنزل، فتضع السؤال الأهم في أهم مكان في المنزل ثم السؤال الثاني في المكان الآخر، الذي ستنتقل إليه ثم تنتقل إلى المكان الثالث في المنزل الذي وضعت فيه ذلك السؤال، وهكذا تتنقل في المنزل بعد أن وضعت في كل مكان منه سؤالا محددا، بهذه الطريقة تتم السلاسة في تذكر الأسئلة وتوجيهها بثقة وبطريقة جيدة.. وطريقة الإلقاء أيضاً لها تأثير في كسب جولات الحوار أو الجدل، وفي الجانب الإيجابي تحدثنا في بداية المقال عن أهمية السؤال في الابتكارات والاختراعات، فنحن نعرف جميعاً أن السؤال الجيد ينتج عنه علم جديد ومفيد، وسبب الاختراعات أسئلة طرحها مبدعون، ولو لم يُطرح السؤال لما كان الاختراع، وفي حالات التدبر والتعقل والتفكير لا بد من استخدام أداة السؤال، في الجانب السلبي لا ننتظر جوابا فالأسئلة جدلية "Rhetorical" لا ننتظر منها جواباً، كأن تسأل الحضور: أيعقل أن تتم محاكمة أفكاري دون استيعابها؟ في حالة الدفاع عن رأي طرحته، أو تسأل: أننتظر من طفل أن يقاوم يافعاً يكبره سناً ويفوقه قوة؟ هذا النوع من الأسئلة التي توافق المنطق والمسلمات ولا يمكن الاحتجاج عليها تكسب المرء جولات المناقشة إذا استخدمت في السياق الصحيح وفي صلب الموضوع، وهذا الجانب هو الذي يعنيه أبو هلال العسكري، عندما تحدث عن السؤال بوصفه سلاحا فتاكا يستخدمه أمير القوم لإدارة قومه، أما في الجانب الإيجابي فالسؤال مصدر علم ومصدر فتح آفاق جديدة للتطوير والتقدم، وخلاصة القول فـ"السؤال" كلمة عجيبة لها أدوار كبيرة جداً في حياتنا كأداة استخدمت وما زالت تستخدم في تقدم الحياة والناس والأعمال، وهي (هذه الأداة) سلاح فتاك في الحوار والجدل، وقد يتم بها كسب جولات بشكل إيجابي وإدارة أقوام بنجاح، وقد يتم بها كسب قضايا عادلة والعكس، "السؤال" كلمة عجيبة فعلاً.