سطت أيادي العبث على غابة فريدة في جبال عسير الشاهقة، هذا الجبل اسمه "تهْلل" كان سيله يسقي مزارع قبائل ربيعة ورفيدة، جبل نعرفه ويعرفنا، فقد مشيناه حفاة ورعيناه وعشنا فيه واختلفنا عليه وحميناه وحمانا على مر السنين، واتفقنا على أنه محمية تخضع للحماية العامة، فلا يعتدي على أشجاره ولا حجارته ولا وديانه أو مياهه وطيوره وحيواناته أحد، وهو للنفع العام يتم الاحتطاب منه والحصول على "المراكب والسواري والمعادل" التي تستخدم في أسقف المنازل العسيرية، كما يتم أخذ "القصة" من تربته البيضاء والحمراء لتستخدم في دهن المنازل، ذلك الجبل العظيم كان ممرا للعابرين من تهامة إلى السراة ومنها إلى بقية بلاد عسير، وكان وفيا لأهله كما كانوا أوفياء له، ولن أنسى تجمع قبائل تلك المنطقة مرات ومرات بهدف ادعاء ملكيته بعد أن أطلت عليهم بواكير الحداثة مع ظهور السيارات التي شق لها أهل جبال عسير وتهلل الطريق في جبالهم ومزارعهم لتصل إلى قراهم الكثيرة والمترامية في السراة وتهامة. ثم تحول تهلل مع دخول الدولة إلى منتجع سياحي حيث قامت الشركة الأجنبية السياحية التي شقت الممرات ووضعت اللوحات وحاولت أن تحافظ على الطبيعة كما هي مستخدمة الحمير في تنفيذ المشروع.

أما المياه الجوفية فكانت على موعد مؤلم مع الاستنزاف، لقد حفرت بأناملي الصغيرة وأنا في المرحلة الابتدائية مع جدي وأبنائه بئرا في باحة ربيعة، ولم تزل ذاكرتي تختزل صورة المياه التي تدفقت من حجر الصوان الذي كنا نقوم بحفره بأيدينا في عمق يصل إلى أربعين مترا، لقد كنت شاهدا على بيع المياه ونزف المضخات.

ربما لم يقدر المعتدون قيمة تلك الغابة الخضراء في المحافظة على الحياة الفطرية وعلى حياة سكان تلك الجبال، وعلى التوازن الطبيعي الذي خلقه الله لحماية الإنسان والحيوان والطيور والسباع وغيرها من مكونات تلك البيئة الشامخة. لقد أخذتني السيارة في يوم ماطر من أول أيام رمضان إلى جبل تهلل والسودة، لأرى ما صدمني من العبث بغابة خضراء نسيم عرعرها يشفي النفوس العليلة ويبعث فيها الحياة، لقد مزقت الطرقات المسفلتة الغابة ووضعت فيها المظلات والإضاءة باسم الحداثة والتطوير والسياحة في جهل كبير بقيمة الشجر وكل مكونات تلك الطبيعة الخضراء. متناسية العلاقة بين الضوء وإنتاج الأوكسجين وامتصاص ثاني أوكسيد الكربون.. لقد انتشرت النفايات البلاستيكية تحت الشجر وبدأت مرحلة الاحتراق بالمواد والفضلات والمهملات التي يتركها الناس دون احترام أو تقدير لأهمية هذه الغابات، وتعرضت الغابة لعدوان سافر دون أن يحرك أهلها ساكنا ويطالبوا بإيقاف الاعتداء على غابة ما تزال صامدة ضد الجهل بأهميتها وضرورتها للحياة.

أدركت أن من ارتكب هذا في حق هذه الغابة لم يدرس في حياته مادة الأحياء، ولا عرف عن النباتات وأهميتها في التمثيل الضوئي وفي تنظيم المناخ، وأنها أهم مصادر الأوكسجين الذي يعتمد عليه الإنسان في حياته، وأنه لا يعلم أن العالم يشجر الغابات ويحاول زرع أكبر قدر ممكن منها لامتصاص ثاني أكسيد الكربون، بينما أيادي العبث تصر وتتعمد منعنا من الحصول على الأوكسجبن ومن العيش في بيئة طبيعية نقية الهواء، بعد أن دمرت الآلة ومعها الإنسان حياة الكائنات، فانقرضت الطيور، والسباع، والحيوانات، وجفت الشلالات في جبال تهلل وانتشر الأسمنت الذي يحتوي على مواد قاتلة للشجر وللبيئة ومكوناتها.

إنني أطالب باسم جميع مكونات الحياة الفطرية، وباسم جميع الطيور التي هاجرت والحيوانات والسباع التي انقرضت، وباسم من تبقى من الغيورين على الغابات والمزارع والمياه وعلى الأوكسجين الذي يمدنا بالحياة بإغلاق جميع الطرقات التي شقت في جبال تهلل والسودة ونزع جميع المظلات، وإعادة تشجير تلك الأماكن وإغلاقها من العبث الذي سوف يؤدي إلى موت تلك الأشجار في القريب العاجل نتيجة النفايات والمحروقات والممارسات الخاطئة من المتنزهين الذين لن يتركوا لمن يأتي بعدهم عودا أخضر. وأرجو ألا يكتب التاريخ بأن غابات تهلل قد تم القضاء عليها من قبل أهلها لجهلهم بأهميتها، وسيكتت التاريخ هذا الاعتداء الصارخ للعابثين في سابقة تعد وصمة عار على من تهاون في هذه المسألة. كيف لا والمنظمات الدولية المعنية بالبيئة تحارب المعتدين على الحياة وتعقد القمم العالمية لمناقشة المناخ والخلل البيئي. وأقترح أن تتم الاستفادة من هذه الغابة في السياحة بمد "كابلات" كهربائة بين الجبال لمن يريد السياحة دون المساس بالأرض والشجر أو الطبيعة حتى يتنقل فيها الناس ويطلعوا عليها دون العبث والخراب والتدمير. وسوف تكون هذه "الكابلات" مصدر دخل مهم للصيانة وحماية الغابات. كما أدعو إلى إصدار قوانين صارمة ضد من يعتدي على الغابات أو يعبث بها.