من المعلوم أن الفقهاء المسلمين قد قسموا "الجهاد في سبيل الله والقتال" إلى قسمين مشهورين (جهاد الدفع) و(جهاد الطلب) وجهاد الدفع، أي الدفاع عن النفس، هو مما اتفقت على مشروعيته كل أمم الأرض لا يستثنى من ذلك إلا بعض المتصوفة والقائلون بنظرية الاستسلام الكامل للقدر والسلبيون في هذا المضمار. أما جهاد الطلب فيقصد به الغزو ابتداء، بحيث يعلن إمام المسلمين الجهاد بغرض احتلال البلدان غير الإسلامية أو فرض الجزية عليها والصلح أو دخول أهلها في الإسلام اختيارا، وهذا النوع من الجهاد قد شرع في وقت لم تكن وسائل الدعوة للدين متوفرة وكان الناس يعيشون في جهل مطبق بالإسلام، ولذلك شرع هذا النوع من الجهاد لإزالة ذلك الجهل ولرفع طغيان الملوك الجبارين عن المستضعفين من البشر ممن لم يكن لهم خيار في اختيار دين أو مذهب أو نهج حياة.

أما اليوم وقد صار هناك وسائل أخرى لإيصال رسالة الإسلام للبشر من خلال قنوات التواصل الإعلامية من قنوات فضائية وشبكات الإنترنت فلم يعد هناك مبرر لقضية إيصال رسالة الإسلام للبشر، لأنها قد وصلت ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) إذ ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ).وإكراه البشر على دخول أي دين غير منطقي ألبتة، لأن المكره سيقول لك ما تريده أن يقوله إن رفعت السيف فوق رقبته، في حين أن عقيدته ستبقى في نفسه على أية حال. لقد أصبحت فكرة الغزو والاحتلال بالقوة مستهجنة إلى أبعد مدى، حتى عند شرائح كبيرة من دعاة الحل الإسلامي، خصوصاً ممن يعيشون في المجتمعات الأوروبية، ويحظون بكل حقوق مواطني تلك الدول من علاج وتعليم ولا يتوقعون أن ينالوا ربع تلك الحقوق فيما لو تغيرت هوية تلك البلاد.

بالنسبة لآخرين، هذا التنظير الذي دونته هنا، غير مقبول، فهم يرون أنه من الواجب على حكام المسلمين أن يعلنوا الجهاد على أهل الكوكب بأجمعه لكي نسير على خيلنا وإبلنا ونستولي بسيوفنا على رقبة "برج إيفل" وأن نعدل ميلان "برج بيزا"، هؤلاء موجودون لكنهم ليسوا بكثير.

آخرون، ربما هم أكثر تعقلاً بشكل نسبي يرون أننا في حالة ضعف ولذلك لا بد أن نسكت حتى يعود طور القوة فنعود إلى الخيل والسيوف والغزو من جديد، وما دام أن وضع الاستضعاف قائم فلا بأس من ممارسة "التقية" حتى ذلك الحين، وإن لم يكن هذا هو النفاق فلا أدري ما هو النفاق.

قرأت لأحدهم منذ أيام، بياناً أثار فيه من جديد هذه القضية وبنفس النغمة التي تتوقع أن العالم لا يقرأ ولا يتابع ولا يفهم، تتوقع أن العالم الذي يتوجس منا ومن ديننا خيفة لا يرصد ما ندونه ونشيعه من دعوات للقتل والطغيان والعدوان.

لا أستغرب إطلاقاً من هؤلاء الناس أنهم لا يحبون وطنهم ولا يبالون به، فالفكرة الأممية هي من الكارثية والقدرة على إعماء البصر بحيث يعتبر الواحد منهم أن كل العالم وطنه، حتى ذلك الجزء الذي لم يغز بعد بالسيف والرمح، لكن ما أستغربه هو قدرة هؤلاء البشر على إبقاء هذا الصوت المتطرف مسموعاً بين الناس بحيث نسمع آخر مستجدات تقليعاتهم بين الحين والآخر.

في المقابل، نجد أن الأصوات الحرة التي تناقش هذه القضايا نقاشاً جذرياً جوهرياً لا تكاد تجد الفرصة لإسماع صوتها للناس. الصوت المعتدل الذي هو نهج هذه البلاد بقيادة الملك عبدالله بن عبدالعزيز يجب أن يكون مسموعاً أكثر لدى عامة الناس، ولا بد أن تكون لديه الحرية الكاملة في نقد هذه الرؤى المتطرفة التي لا تجلب إلا الشر والنكبات، فهذه الأصوات المتزمتة هي السبب في خسارتنا لكثير من قضايانا العادلة وحقوقنا في الأرض المغتصبة وتجلية اسم الهوية المتهمة.