كنت مستمعاً بإعجاب واهتمام لمذيع إحدى محطات الـFM وهو يعلن موضوع النقاش بعنوان (ما هي وظيفة أحلامك؟).. بمجرد أن بدأ البرنامج حتى بادرت فتاة بالاتصال لتشارك فيه بالتعبير عن المهنة التي تحلم بها، وهي أن تكون مصممة أزياء.. وما إن نطقت بحلمها حتى قاطعها المذيع ضاحكاً وساخراً منها بأنه يجب عليها أن تستيقظ، وبأن هذه المهنة في الأحلام فقط ولا تمت للواقع بصلة، وأن هناك واقعا آخر هو فواتير الماء والكهرباء والمعيشة.. يجب أن تسدد. ردت عليه الفتاة بأن "هذه المهنة هي حلمي، وأتمنى أن تتحقق وأن أعمل بها"، ولكنه ضحك مرة أخرى وببلاغة لغة الإحباط طلب منها أن تستمع لنصيحته وتستيقظ للواقع وترمي خلفها حلمها المستحيل وتحلم بشيء أكثر واقعية.
غادر صوت الفتاة موجة الإذاعة، ولا نستطيع أن نحكم بأنها أصبحت أكثر تمسكاً بحلمها أم إنها ولت تحمل راية الخسارة أمام لغة الإحباط التي مارسها عليها مذيع المحطة.. لغة الإحباط المترسخة بثقافة المذيع، المتشربة بروحه حتى فاضت لمستمعيه هي صورة مصغرة لمجتمعنا العربي بأكلمه. ما إن يبرز بيننا حلم، وحتى لو كان صغيراً، حتى نقمعه، وما إن يتحدانا حتى نحاربه، مؤكدين مقولة العالم المصري أحمد زويل "الغرب ليسوا عباقرة ونحن أغبياء.. هم يدعمون الفاشل حتى ينجح ونحن نحارب الناجح حتى يفشل".. شاب آخر توقف عن الدراسة بعد أن أنهى عامه الأول من الثانوية العامة وتوجه مجبراً تحت وطأة ظروفة المادية ووفاة والده لسوق العمل، متحملاً مسؤولية عائلته التي أصبح عائلها الوحيد.. عمل كميكانيكيا لصيانة السيارات.. كلما أنحنى على محركات السيارت ليفحصها تمنى لو أنه ينحني للكشف على أحد مرضاه، وكلما ارتدى البدلة الخاصة بعمله كميكانيكي تاقت روحة لأن يرتدي سترة الطبيب التي طالما حلم بارتدائها، كلما غادر منزله للمهنة التي أجبرته الظروف للعمل بها زاد إصراراً على أن يصبح طبيباً يرسم الابتسامة على وجوه مرضاه بدلاً من تلك السيارات الخالية من المشاعر.. عندما تحسنت ظروفة المادية أصبح حينها بعمر الـ32 عاماً، وأصبح من الصعب عليه أن يكمل ما حلم به وهو صغير، ولكنه حاول، وما إن قرر إكمال تعليمه الثانوي وإكمال الطب حتى أنهال عليه من حوله سخرية وتهكماً، طالبين منه أن يترك عنه الوهم وأن ينتبه لعمله لكيلا يصطدم بالواقع.. غادرهم محبطاً إلى الدكتور إبراهيم الفقي، رحمه الله، فشجعه وقال له "لو استمعت إليهم فلن تحقق شيئاً، استمع فقط لحلمك واعمل من أجله وسيتحقق"، وبعد عامين عاد الميكانيكي للدكتور إبراهيم الفقي وهو طالب بكلية الطب.. أرواحنا إسفنجة وبالمادة التي تتشبع بها تفيض، فلنغرقها إيجابية وتشجيعا حتى نفيض بلغة الأمل ونجفف منابع الإحباط. إن نفشِ بيننا اليأس فذلك مدعاة لموتنا ونحن أحياء، وإن أفشينا التفاؤل والأمل أحيينا القلوب اليائسة وهي رميم، وبنينا من أحلامنا واقعا لا يموت، بل يعيش للأبد.