استقبل الغيورون والمحبون لهذا الوطن الأمر الملكي الكريم الذي صدر الخميس الماضي، ووجّه فيه خادم الحرمين الشريفين سماحة مفتي عام المملكة إلى قصر الفتوى على أعضاء هيئة كبار العلماء، مستثنياً الفتاوى الفردية غير المعلنة في أمور العبادات والمعاملات، والأحوال الشخصية، واشترط فيها أن تكون خاصة بين السائل والمسؤول، مشدداً على أن يمنع منعاً باتاً التطرق لأي موضوع يدخل في مشمول شواذ الآراء، ومفردات أهل العلم المرجوحة، وأقوالهم المهجورة، والحدّ من التجاوزات على الكتاب والسنة والعلماء.

صيغة البيان كانت واضحة، ووضعت النقاط على الحروف، وأعادت الاعتبار والهيبة لهيئة كبار العلماء، بعد أن أسهم إعلامنا وبعض مواقع الإنترنت للأسف، بتلقف مفتي الفضائيات، أو غير الراسخين في العلم، وإبراز أقوالهم، أو أولئك الواعظين وخطباء الجُمع المزنرين بحب الشهرة والدنيا والمناصب، مستغلين بعض الفجوة الحاصلة في ساحة الإفتاء، كي ينفذوا من خلالها..

في مقالات عديدة أوضحت أهمية دور علمائنا، وضرورة ترميزهم في وجدان الأجيال، ففي الأزمات الحادة، والانعطافات المجتمعية الكبرى؛ يتبدى دورهم الحاسم في مجتمع ينحاز بفطرته للدين وعلمائه، ومن يعود للتأريخ؛ ليتلمس صحة هذا التقدير، عبر تلك المواقف الناصعة لهيئة كبار العلماء، مذ أزمنة المؤسس -يرحمه الله-، وموقفهم الحازم –مثلاً- من حركة الإخوان السعوديين، وسجالاتهم الطويلة مع زعمائهم فيصل الدويش وسلطان بن بجاد، بل شاركوا في حربهم بمعركة السبلة الشهيرة (1929م)، ومروراً بالفترات الدقيقة التي مرت بالبلاد في الستينات الميلادية حيث كان لعلماء المملكة إذاك الدور الأكبر في اجتياز البلاد لهذه المرحلة وعدم حدوث أية تداعيات أمنية أو سياسية، لنأتي في عهد الملك خالد -يرحمه الله-، وكلنا يتذكر الموقف الحاسم لعلمائنا من فتنة جهيمان العتيبي واحتلاله الحرم المكي (1979م)، وكيف تصدّى العلماء له ولأقواله، وقاموا بمخاطبته وإقناعه بالعدول عن آرائه الشيطانية، غير أنه أبى واستكبر وظل على غيّه الخاسر، وأفتى العلماء وقتها بجواز قتاله في الحرم، لأنه الباغي. أدركنا كذلك الدور الكبير لعلمائنا، والفتنة تمور في طول المجتمع وعرضه بسبب تأجيج بعض الدعاة وتشكيكهم في فتوى جواز استقدام القوات الأمريكية إبان احتلال صدام حسين للكويت(1990م)، بل تجاوزت الفتنة الساحة السعودية إلى العالم الإسلامي برمته، وتحدث علماء ذوو مكانة رفيعة من خارج بلادنا في الموضوع، وانبرى علماؤنا لهم، وفككوا استدلالاتهم، وكان لموقفهم اليد الطولى في حسم الموضوع. وأخيراً، وليس بآخر، الموقف الساطع لعلمائنا من فتنة الإرهاب التي ابتلينا بها بعد أحداث 11 سبتمبر، والتي تحولت إلى بلادنا من قبل شرذمة منحرفين فكرياً من أبنائنا، باتوا مطية لاستخبارات أجنبية استغلت تدينهم الساذج، وعدم رسوخهم في العلم الشرعي؛ فوجهوا فوهات رشاشاتهم إلى وطنهم الكبير. كل المراقبين والباحثين، كتبوا على أن أقوى من فكك حجج عرّابي الإرهاب وأدلتهم؛ هم علماء السلفية في هذه البلاد.

مواقف مضيئة وكبيرة لهيئة كبار العلماء لا تعدّ ولا تحصى، ولطالما دعوت النخب وأصحاب القرار للاهتمام بمكانة هؤلاء العلماء، وقد كتبت في زاويتي هذه بـ(الوطن) في مقالة سابقة عنوانها (آن الأوان لإنصاف علمائنا وترميزهم - 17جمادى الآخرة 1431) قلت فيها: برأيي، "إنه آن الأوان للتفكير جدياً –على المستوى السياسي- في إعادة المكانة والهيبة لعلمائنا عالمياً، ووضع استراتيجية خاصة بذلك، لأنك إن يمّمت تجاه مصر، ألفيت الأزهر يقوم بدور كبير في التفاعل مع قضايا الأمة، ويخدمه الإعلام المصري ويرمّزه كهيئة عالمية للسنة، وإن يمّمت تجاه إيران، ألفيت مرشدها لا يفوّت أية خطبة جمعة؛ إلا ويصدع برأيه في قضايا المسلمين، فيما تتناقل وسائل الإعلام العالمية ما يقوله".

ورغم أنني إعلامي، إلا أنني أعتب أن إعلامنا لم يتنبه لهذا الموضوع، ولم يعط التقدير المستحق للعلم وقياداته، بل كان منشغلاً عن بيانات وأنشطة كبرى لهيئة كبار العلماء بإفراد المساحات الكبيرة، والملاحقات الصحفية التي تترى؛ لفتوى إرضاع الكبير، أو فلّ المرأة الأجنبية لشعر الرجل، دع عنك تعليقات الكتبة، الذين جلّ همّهم تصيُّد كلمة ندّت من داعية، أو التنقيب في فتوى قديمة لأحد طلبة العلم كي يقيموا الدنيا عليها؛ ليبدو الحراك الشرعي لدينا "أضحوكة الأضاحيك" للعالم.

توجيه خادم الحرمين كان واضحاً بقصر الفتوى على هيئة كبار العلماء ومن يرشحهم، وفي تصوري أن هذا الأمر الملكي الكريم، قطع الطريق على مفتي الفضائيات الصغار، الذين يدغدغون مشاعر النخب والمثقفين، بفتاوى بعيدة عن واقعنا، ويقطع الطريق أيضاً على مفتي الشهرة والمناصب وطلاب الدنيا، وهؤلاء موجودون في كل زمان ومكان، ومن ينقب في كتب التاريخ يجد أشباههم بالآلاف. التوجيه الملكي أيضاً، يقطع الطريق على طلبة العلم المحتسبين، وكان صريحاً في توجيهه لهؤلاء بقوله:"ولا شك أن للاحتساب الصادق جادة يعلمها الجميع، خاصة أن الذمة تبرأ برفع محل الاحتساب إلى جهته المختصة، وهي بكفاءة رجالها وغيرتهم على الدين والوطن محل ثقة الجميع، لتتولى أمره بما يجب عليها من مسؤولية شرعية ونظامية" .

التوجيه الملكي أشار إلى خطباء الجُمع في قصره على ما ينفع الناس، فحدّد بالضبط دوره، بأن "منبر الجمعة للإرشاد والتوجيه الديني والاجتماعي بما ينفع الناس، لا بما يلبس عليهم دينهم، ويستثيرهم، في قضايا لا تعالج عن طريق خطب الجمعة".

ولكن السؤال الذي ظل يلوب في الساحة الفكرية من أيام: هل يمكن تطبيق هذا القرار في أرض الواقع؟

التاريخ ينبئنا أن ثمة سوابق لمثل هذا التوجيه؛ فقد نودي في المدينة: "لا يُفتى ومالك فيها"، ونفس الأمر تكرر، حيث كان ينادى وقت الحج: "لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح، فإن لم يكن عطاء؛ فعبد الله بن أبي نجيح"، وقال سهل بن عبد الله التستري: "وإذا نهى السلطان العالم أن يُفتي فليس له أن يفتي، فإن أفتى فهو عاصٍ وإن كان أميراً جائراً".

ولكن هل يمكن ضبط الأمر، في تصور كاتب السطور بأن من الصعوبة ضبط القضية، ونحن نعيش عصر الفضائيات والإنترنت والفيس بوك، ولكن "ما لا يدرك كله؛ لا يترك جلّه"، فالفوضى الحاصلة في الساحة الشرعية ستخف إلى حدّ كبير، خصوصاً إذا واكب إعلامنا المحلي التزام توجيهات خادم الحرمين بعدم إبراز الفتاوى الشاذة، والأقوال الضعيفة، واستضافة أصحاب المطامع الدنيوية.

معالي وزير العدل الشيخ محمد العيسى كان صريحاً بأن وزارته ستقوم بتطبيق الجزاء الشرعي على كل من سيخالف هذا الأمر، ولكن كيف ذلك؟ ومن ستتحقق عليه المخالفة؟ فيما كشف القاضي في محكمة الاستئناف الدكتور فؤاد الماجد أن عقوبة مخالف الأمر الملكي ستكون تعزيرية، وعقوبتها تتراوح ما بين أخذ التعهد إلى أن تصل إلى حد القتل!!، ربما كان من الصعوبة إلا أن توضح وزارة العدل بشكل جلي من سيقع تحت طائلة القانون.. لننتظر الغد.