البِرُّ بالوالدين من أهم ما دعا إليه الإسلام، وقد قَرَن الله هذا الأمرَ بوجوب الإيمان به - جلَّ وعلا - في مواضع كثيرة؛ منها قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}؛ كما أرشدنا القرآن الكريم إلى وجوب بِرِّ الابن بوالديه، وحسن معاملته لهما؛ ومن أجل ذلك كان الملك عبدالعزيز يتقرب إلى الله بحبه لوالديه، وبطاعتهما، وكانت علاقته بهما علاقة حميمة منذ مرحلة الطفولة، ولعل مما يسجله التاريخ للملك عبدالعزيز تقديره لوالده أثناء الإقامة معه في الكويت إصرارَهُ على استشارة والده، واستئذانه في البدء في مرحلة التأسيس والسعي لاسترداد الرياض؛ حيث لم يتحرك الابن إلا بعد أن نال موافقة أبيه، ولقي الأب من الابن كلَّ بِرّ؛ فقد استدعى الابن البارُّ أباه من الكويت بعد أن استتب له أمر الرياض، فحضر الوالد، وبادره عبدالعزيز بإعلامه بأن الإمارة معقودة له، وأنه جندي في خدمته، ولكن الوالد - لِمَا يعرفه من عظيم همة الابن وصلاحه وقدرته - أبى إِلَّا أن تكون الإمارة لولده، وقبلها الملك عبدالعزيز بشرط أن يكون للأب الإشراف على عمله وإرشاده دائمًا.

ولو أننا تتبَّعنا سيرة الملك عبدالعزيز مع والده بعد استقراره في الرياض، فإنه يمكن أن نلحظ عمق المحبة والتقدير من الابن للوالد؛ هذا التقدير الذي بقي في تزايد مستمر ومُوَازٍ لتقدم العمر عند الابن والوالد؛ فقد ظل الملك يقوم بزيارة والده كل صباح، في حين كان الوالد يزور الابن بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع، وكان يَلْقَى كل ترحاب ومحبة من الابن الذي كان يسارع في تقديمه إلى صدر المجلس، ويجلس هو بين يديه مع الزُّوَّار، صامتًا ينتظر ما يأمره به، وإذا همَّ بفعل شيء أو اتخاذ قرار، كان لا بد من قيامه بعرض ذلك على الوالد أولاً، وفي المقابل كان الوالد يرد رسائل عبدالعزيز الخاصة بهذا الشأن كما هي، ويقول: "عبدالعزيز مُوَفَّق؛ لقد خالفناه في آرائه كثيرًا، ولكن ظهر لنا فيما بعد أنه هو المصيب، ونحن المخطئون، إن نِـيَّـته مع ربه طيبة لا يريد إلا الخير للبلاد وأهلها، فالله يوفقه، ويأخذ بيده".

وتحتفظ دور الوثائق بالعديد من المراسلات المتبادلة بين الإمام وبين ابنه عبدالعزيز، تدل على مدى التقدير والاحترام بينهما؛ والشاهد على ذلك: هذا النموذج من تلك الرسائل، وهو رسالة جوابية من الملك عبدالعزيز إلى والده مُؤَرَّخة في السادس عشر من رمضان عام 1344هـ/1926م؛ نورد مقتطفات من نصها: " خطكم المكرم وصل، تلوناه حامدين الباري جلَّ شأنه على دوام صحتكم، وما عُرِفَ حضرتكم به كان لدى مملوككم معلومًا"، ويقول أيضًا: "أخبارنا طيبة، ولا يوجد ما يوجب إفادة حضرتكم به سوى دوام العفو والعافية والرخاء والأمنية الشاملة، نرجو الله تعالى أن يَعُمَّهُ على الجميع، ولا يغير على المسلمين بدوام وجودكم، هذا ما لزم تعريفه، والرجاء مواصلة مملوككم بأخبار صحتكم مع إبلاغ السلام للأولاد، وكما هنا العيال يُسَلِّمون، والله يحفظكم محروسين".

ظلت العلاقة قائمة على الحب والاحترام، وها هو التاريخ يسجل - بفخر - ذلك الموقف العظيم للملك في بره بوالده؛ فبعد أن استقرت الأمور للملك عبدالعزيز في الحجاز حضر والده الإمام عبدالرحمن بن فيصل آل سعود من الرياض ليؤدي فريضة الحج؛ فدخل المسجد الحرام يطوف بالبيت العتيق ومعه ابنه الملك عبدالعزيز، فطاف الوالد والولد، ولكن الأب الذي كان قد بلغ من العمر مبلغًا، وقد صار ضعيف البنية لا يقوى على المشي، ولما بلغ به التعب مبلغه، وأدركه الإعياء، هبط على الأرض بعد أن أتم ثلاثة أشواط من الطواف، فما كان من الملك عبدالعزيز إلا أن حمل والده على مرأى من الناس جميعًا، حتى أتَمَّ بقية الأشواط، وهو قد كان بإمكانه إصدار الأوامر بأن يُحْمَلَ على راحات الأكفِّ، لكنه أبى ذلك وحمله بنفسه.

مرة أخرى يُجَسِّد لنا الملك عبدالعزيز هذه العلاقة السامية، ويحدثنا عنها الأمير طلال بن عبدالعزيز، حيث يقول: اجتمع ذات مرة في الرياض أمراء نجد وعلماؤها وأعيانها ورؤساء قبائلها، وكان في مقدمة الحاضرين الإمام عبدالرحمن بن فيصل، ثم انفض الاجتماع، وخرج الجميع يتقدمهم الإمام عبدالرحمن، فلما جيء بحصانه ليركبه، بادر الملك عبدالعزيز فتقدم إلى سائس الحصان، وأخذ منه مقود الحصان، وقـرَّبه بنفسه إلى والده، ولما هَمَّ الإمام باعتلاء صهوة الجواد، انحنى الملك عبدالعزيز ليجعل من كتفه مرتفَعًا يضع عليه والده قدمه؛ ليعتلي الحصان، وظل واقفًا في أدبٍ جَمٍّ حتى وَدَّعَ والده ومن كان معه.

رحم الله الملك عبدالعزيز؛ فقد كان نعم الابن البارِّ بوالديه، بل كان قدوة في ذلك.