إذا كان العيد هو حالة اجتماعية مكثفة من إظهار الفرح، فإننا دائما نتساءل إلى أي حد يعبر هذا الفرح عن الحقيقة، أي "السعادة" الحقيقية في قلوبنا، السعادة العميقة، الرضا الكامل عن أنفسنا وحياتنا وعلاقتنا بالمجتمع.

هذا التساؤل هو جزء من تساؤل أكبر تتم مناقشته في كافة أنحاء العالم حول السعادة، وهو نقاش موجود بنسبة أكبر في الدول الغربية، التي استطاعت أن تحقق الكثير على مستوى التقدم الاقتصادي ومستوى تحقيق احتياجات الإنسان الأساسية والكمالية، وما زالت تتساءل عن تحقيق السعادة.

هناك الكثير جدا من المشاريع الأكاديمية والحكومية في الغرب التي تركز على السعادة وجودة الحياة عموما، وهناك مقياس لمنظمة التعاون والتطوير الاقتصادي للسعادة في الدول الغربية، وطورت بريطانيا مقياسا آخر روج له رئيس الوزراء ديفيد كاميرون كمحاولة لتوجيه المجتمع للنظر لتطوير المجتمع على عدة مستويات بدلا من التركيز على المقاييس الاقتصادية.

هذا التركيز جاء لأن العالم اكتشف بشكل واضح أن المعايير الاقتصادية لا تكفي لقياس السعادة. هناك مثلا دراسات واضحة أنه بقدر ما تحسن الاقتصاد في دول مثل أميركا، زادت نسب الاكتئاب والانتحار والمشكلات النفسية والاجتماعية.

التطور التكنولوجي جاء بنفس السؤال: هل تحسن التكنولوجيا من مستوى السعادة لدى الإنسانية؟ نحن نتفاعل اجتماعيا مع عدد أكبر بكثير من الناس عبر الشبكات الاجتماعية، ونتفاعل بشكل أكبر كثافة على انستاجرام وفيسبوك وتويتر، وهناك تطبيقات كثيرة على الكمبيوتر والموبايل التي تجعل حياتنا أسهل وأكثر إنتاجية، وهناك آلاف وسائل الترفيه من كل زاوية من حولنا، حتى صرنا في حالة من إدمان الترفيه. هل هذا كله يجعلنا سعداء أكثر؟

اطلعت على العديد من الدراسات التي تحاول مناقشة الموضوع، وسيبقى الموضوع محورا للمزيد، لأن التكنولوجيا تغير حياتنا بشكل قسري، وهو تغير بعضه إيجابي وبعضه سلبي بمعايير السعادة، وهو تغير قسري لأن شركات التكنولوجيا لا تسألنا عما تنتجه بل تسوقه لنا، ونحن نندفع معه ضمن حالة اندفاع اجتماعية عامة نحو هذا التغير السريع.

رغم كل هذه المشاريع والدراسات، فما زالت قضية السعادة لا تمثل في الحقيقة اهتماما إنسانيا كبيرا، وما زال المهتمون بهذا الموضوع يرون أن الدول المتقدمة تعطي هذا الموضوع أقل بكثير من حقه. مصطلح السعادة يجمع بين طياته ذلك الرضا العميق لدى الإنسان عما حققه في حياته في الماضي، وعن مستوى حياته الحالي، وعن مستقبله كما يراه ويتوقعه. السعادة تشمل الإحساس بالأمان، والرضا عن المسكن والتعليم والصحة، كما تشمل وجود التوازن بأنواعه في حياتنا، التوازن بين العمل والحياة الشخصية، والتوازن بين ما نريد، وما يريده المجتمع، وما نحققه فعليا، والتوازن بين الأفكار والمعتقدات وبين واقعنا وممارستنا.

السعادة بهذا التعريف هي الهدف الأسمى للإنسان في حياته عموما، ولكنها رغم ذلك لم تلق اهتمام الناس، وكما قال أحد المفكرين: أميركا جاءت في المستوى 12 في السعادة ولكن المظاهرات لم تخرج، والناس لم تحتج، ولم يكن هناك حتى من يتحدث عن هذا الموضوع. لو حصل هذا نفسه على مستوى الاقتصاد لكانت ردة الفعل والغضب مختلفة تماما.

السبب الرئيسي في هذا الإهمال الإنساني هو "قياس السعادة"، فهناك عموما عدم تصديق لدى الناس لهذه المقاييس ونتائجها، وعدم إدراك لما تعنيه السعادة في حياتهم، بينما تركيزهم كله على احتياجاتهم المادية والقضايا التي يقولبها الإعلام لهم. السعادة ما زالت مفهوما فضفاضا، ومقاييس السعادة ما زالت غير دقيقة فعلا، ومصداقيتها تتعرض للكثير من النقد، وما استثمر في تطويرها ما زال محدودا جدا، ولذلك لا يأبه لها الناس كثيرا.

هذا ما تحاول التكنولوجيا علاجه، وهي بذلك ستسهم في علاج واحدة من المشاكل المهمة في حياة الناس في عالمنا المتحضر. التكنولوجيا تحاول استغلال ارتباط أجهزة الموبايل بنا على مدار الساعة حتى تفهمنا وتقيس مستوى السعادة، وتأتي بنتائج فورية أكثر دقة عن سعادة الإنسان، وهناك عدد من الباحثين والمفكرين الذين يحثون شركات التكنولوجيا على الاهتمام بهذه التطبيقات وتطوير تلك المقاييس للمساهمة في تنمية سعادة الناس.

أحد هذه التطبيقات على سبيل المثال هو مشروع happathon.com والذي يحاول قياس مستوى الضغط النفسي عند الإنسان على مدار اليوم من خلال تطبيق موبايل مقابل المعلومات التي يقدمها الإنسان من خلال التطبيق نفسه عن سعادته وارتياحه لما يفعل على مدار اليوم، حتى يساعد الإنسان على فهم نفسه، وما يحب فعله حقيقة بناء على رغباته وضغطه النفسي.

مشروع آخر طموح جدا (hedonometer.org) والذي يحاول فهم مستوى السعادة في المجتمع من خلال تحليل مستمر لما يكتبه الناس على تويتر، وهناك تطبيق جميل (happier.com) والذي يمثل شبكة اجتماعية للحديث عن اللحظات السعيدة كل يوم ومشاركتها مع الآخرين.

التكنولوجيا بذلك تسهم في رفع السعادة، ولكنها من ناحية أخرى سبب لتعاسة الكثيرين، والسبب حسب ما تقوله "بروفسورة السعادة الرقمية" في جامعة نيويورك آنا أكبري يعتمد على الطريقة التي نتعامل بها مع التكنولوجيا، وهي تركز كل بحوثها ومحاضراتها على الطرق الأمثل لجعل التكنولوجيا أسلوبا لتحقيق السعادة في حياتنا.

في الأسبوع الماضي بلغت الأربعين من عمري، وبينما أنا أعيش لحظات التأمل فيما أنجزته في حياتي وفي ما أريد تحقيقه، جاء العيد بكل ما يحمله من ظواهر ومعانٍ، فقررت أن أكتب هذا المقال.

أسعدكم الله جميعا، سعادة حقيقية عميقة تدوم في الدنيا والآخرة..