استبشرنا خيراً قبل عامين بوجود أكثر من شركة طيران لخدمة المدن داخل المملكة غير أن الفرحة قد لا تطول. إحدى هذه الشركات وإلى يومنا هذا تكبدت ما يقرب من مليار ريال من الخسائر والأخرى أكثر من نصف هذا المبلغ. السبب في هذه الخسائر هو غياب البيئة التنافسية العادلة في المملكة. المسؤول عن هذا الغياب هو هيئة الطيران المدني السعودية التي تعتبر المنظم والمحفز لهذه الاستثمارات. لو اختفت شركتا "ناس" و "سما" لا قدر الله بسبب تراكم هذه الخسائر فسيفقد أكثر من ألفي رجل وامرأة من السعوديين وظائفهم لينضموا إلى طوابير العاطلين.
لكن لماذا؟ وكيف يمكن لشركة طيران داخلية أن تفلس في بلد مساحته ثلاثة أرباع قارة أوروبا وبناتج محلي داخلي بمئات المليارات من الريالات ويسكنه ستة وعشرون مليون نسمة ولديه عشرات المطارات؟ باديء ذي بدء ومع الإصرار على تطبيق أسعار التذاكر المخفضة داخلياً وهو قرار حكومي لدعم المواطنين، تقاعست هذه الهيئة عن المطالبة بدعم هذه الشركات بأسعار الوقود المخفضة من أرامكو أسوة بما تحصل عليه "الخطوط السعودية". للعلم فقط الوقود يباع على هاتين الشركتين بعشرة أضعاف السعر الذي يباع به على "السعودية". هذا السعر أعلى من سعر بيع الوقود في مطار الخرطوم بنسبة 40% وأعلى من بيعه في مطارات دمشق وصنعاء والشارقة. لا أدري لماذا تصر أرامكو على هذه التسعيرة الباهظة في بلاد النفط لاسيما أن تكاليف الوقود تشكل أكثر من 35% من تكاليف الطيران مجتمعة. الأمر العجيب أنه ومع هذا الفارق الكبير في أسعار الوقود لم تفكر هيئة الطيران المدني ولم تبذل أي جهد لإقناع الدولة بتحرير أسعار التذاكر الداخلية أو على الأقل تعديلها بما يتناسب مع تكاليف التشغيل. ليت الأمر توقف عند هذا بل إن الهيئة زادت جبايتها للخدمات اللوجستية بمقدار 30% بعد منحها التراخيص لهاتين الشركتين مباشرة. كل هذه الإجراءات مجتمعة ستقود أي منافس للخطوط السعودية إلى الإفلاس.
لماذا تفعل الهيئة ذلك؟ هل لأنها تسعى إلى أن تصبح جهازاً مستقلاً بموارده المالية عن الدولة. أي كأنهم يقولون لا مشكلة في إفلاس استثمارات القطاع الخاص في الطيران حتى لو كانت بالبلايين، المهم أننا في الهيئة نحقق دخلاً مالياً؟ هل هذا يفسر جباية الخمسة ريالات في مطار جدة لكل من يمر من أمام الصالات ويقال إنهم يخططون لتطبيق ذلك لكل من يريد أن ينزل راكباً في مطار الرياض قريباً؟ إن كان هذا هو السبب فهو مؤسف جداً وينم عن قصر نظر فاضح.
تدخلت الدولة عندما نفد "وقود" هاتين الشركتين في مطلع العام الماضي من خلال قرار صادر من مجلس الوزراء بتكليف وزارة المالية وليس هيئة الطيران المدني ببحث المشاكل التشغيلية مع هاتين الشركتين مع إيجاد الحلول الجذرية والدائمة لها خلال ستة أشهر بما يكفل الوفاء بالتزاماتهما واستمرارهما في العمل. وشمل القرار منح كل شركة قرضا بقيمة 200 مليون ريال مع تخفيض في أسعار الوقود ليتساوى مع أسعار "السعودية" لمدة ستة أشهر وهي المدة التي كان يفترض أن تجد وزارة المالية حلاً جذرياً ودائماً لهذه المشكلة. انقضت المدة وعادت أسعار الوقود من جديد إلى سابق عهدها واستلمت الشركات مبلغ القرض وتوقف الأمر عند هذا الحد. صدر هذا القرار في الشهر الخامس من العام المنصرم 2009م وتوقف العمل بالأسعار المخفضة في شهر نوفمبر وعادت المأساة من جديد. أين الحلول الجذرية التي نص عليها قرار مجلس الوزراء؟ هل بحثت وزارة المالية هذه المشكلة مع شركتي الطيران؟ لا أحد يعلم.
الذي نعلم عنه أنه في مطلع هذا العام توقفت الشركات عن خدمة المطارات الداخلية بسبب نزيف الخسائر وعادت "السعودية" إلى تعبئة الفراغات التي تركتها واكتفت الشركات بخدمة مطارات الرياض وجدة والدمام والمدينة وأبها وجيزان فقط. هذا إضافة إلى بعض المحطات الخارجية الجديدة.
اليوم يدرك كل متابع أن صناعة الطيران في المملكة وفي هذا التخبط في التنظيم وغياب الحيادية أصبحت صناعة غير مربحة. نتائج هذا التخبط لا تطال فقط المستثمرين بل إنها تطال المواطنين أيضاً وتلحق الضرر بالسياحة وتقلل من فرص العمل. هذا ما دفع الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز رئيس الهيئة العليا للسياحة والآثار قبل أسبوع وعلى غير عادته إلى التذمر من قلة عدد المقاعد المتاحة لتنقل الناس بين مدن المملكة في هذا الصيف.
أنا هنا أتساءل حقيقة كما تساءلت في مواضيع سابقة عن بعض تصرفات هيئة الاتصالات مع المشغلين الجدد للهاتف الجوال، لماذا نسمح دائماً أن تصل الأمور إلى هذا الحد؟ كيف نحقق التنمية في بلادنا الحبيبة وهيئاتنا التنظيمية تقف موقفا لا يقفه ولا حتى الأعداء أمام هذه الاستثمارات؟ إذا كانت الدولة تصر على الإبقاء على التذاكر المخفضة داخلياً فلماذا لا تساوي بين شركات الطيران في أسعار الوقود وأسعار الخدمات الأخرى؟ نطرح هذه الأسئلة ونتمنى أن تعيد هيئة الطيران المدني حساباتها وتعيد ترتيب أولوياتها بحيث يكون الهدف الأسمى وهو التنمية الاقتصادية في قطاع الطيران المدني ودعم التنافس بين الشركات وبسط الأرضية العادلة للتنافس بين العاملين في هذا القطاع هو الأول في سلم الأولويات لديها.