تعد إيران خلال فترة حكم الشاه محمد رضا بهلوي في السبعينات حالة دراسية (case study) مهمة وخاصة فيما يتعلق بإطلاق برنامج تنمية وتحديث (modernization and development) واسع النطاق للدولة دون أن يحكم هذا البرنامج رؤية موسعة واستراتيجية تستشرف الغايات منها وتحتسب آثارها على المدى الطويل، ويرى كثير من الباحثين أنه من جملة الأخطاء المتعددة التي وقع فيها الشاه كان برنامج التنمية الطموح جدا وغير المتوازن من أحد أهم أسباب فشله وسقوطه، محولا التنمية من وسيلة إلى غاية في حد ذاتها. ورغم أن تجربة التنمية الإيرانية خلال السبعينات تعد المثال الأكثر تطرفا من ضمن التجارب المتعددة في المنطقة إلا أن الأنماط العامة التي قادت تجربة الشاه للفشل موجودة في معظم التجارب التنموية، وهو الأمر الذي يستدعي التنبه والاستفادة، وعـلى رأس هـذه الأنماط يمـثل نمطين تحديدا النقاط الأكثر أهمية:

أولا: التنمية السريعة مقابل التنمية التدريجية:

تعد أحد الأنماط السائدة في المنطقة فيما يتعلق بالتنمية هي غياب خطة تنموية رئيسة (Master-Plan)، ومثل هذه الخطة لا تتعلق بمجرد معرفة ما ينقص من مستشفيات أو مدارس أو سكن وإنما هي رؤية متكاملة وشاملة تهدف لاستشراف مستقبل الدولة وتعمل عليه من خلال ربط جميع العناصر مع بعضها البعض بتناغم مدروس. ما واجهته دول المنطقة والدول النفطية تحديدا بعد عام 1973 هو ثورة تنموية لم تكن سليمة في حقيقتها، فمحاولة الحصول على كل شيء في أسرع وقت لا ينتج تنمية وإنما فقاعة تنموية.

يورد أندور سكوت كوبر في كتابه "ملوك النفط" مثالا رائعا على إيران يصف حقيقة التنمية السريعة غير المدروسة، فخلال منتصف السبعينات ونتيجة "الانفجار" التنموي الذي دفع به الشاه ومحاولته الحصول على كل شيء دفعة واحدة وصل الأمر بالناقلات والسفن التجارية لأن تنتظر في موانئ إيران بمتوسط مدة تبلغ 250 يوما ليتم تفريغها وعانى عمال الميناء في تفريغ ما يقارب من 800 ألف طن من البضائع والحمولات التي استوردتها إيران، وكانت 10% من المعدات والأجهزة والبضائع التي يتم استيرادها تتعرض للتلف نتيجة سوء التخزين والإهمال على أرصفة الميناء وفي المخازن، واضطرت حكومة إيران لدفع ملياري دولار لتعويض شركات النقل عن التأخير في تفريغ البضائع، وبعد تفريغ تلك البضائع في نهاية الأمر وجد الإيرانيون أنهم لا يملكون ما يكفي من الشاحنات لنقل حاويات البضائع، فسارعت الحكومة لشراء 4 آلاف شاحنة، وعندما وصلت الشاحنات لم يكن هناك ما يكفي من السائقين لقيادتها، وعندما تم التعامل مع مسألة توفير السائقين تعرضت الطرق لازدحام شديد نتيجة غياب البنية التحتية وسوء حال الطرق وبطء توسعتها وإصلاحها، ونتيجة حاجة إيران للعمالة الماهرة اعتمدت الخطة الخمسية على جذب حوالي 720 ألف عامل من الخارج، وهو ما ساهم في زيادة أزمة الإسكان نتيجة الضخ الهائل للعمالة دون أن يتمكن سوق العقار من استيعاب الزيادة، وبدأت الحكومة في ذات الوقت العمل على إنشاء مفاعلين نوويين لتوليد الكهرباء بالتعاون مع ألمانيا الغربية، في الوقت الذي لم تكن هناك شبكة كهرباء تمتد للمدن والقرى لإيصالها، وهو ما استلزم استثمارا من الحكومة أكبر من حجم الاستثمار في إنشاء المفاعلين أنفسهما.

كل هذا حدث والحكومة الإيرانية بنت خطتها اعتمادا على سعر مرتفع لبرميل النفط بعد الحظر النفطي عام 1973، في الوقت الذي بدأ سعر برميل النفط فيه بالتذبذب مع منتصف 1975 وانخفاضه لاحقا، وهذه في حد ذاتها مشكلة أخرى تواجه الدول النفطية التي تعتمد في تنميتها بشكل كامل على سلعة متذبذبة السعر في الأسواق.

ثانيا: التنمية غير المتوازنة:

تعد التنمية غير المتوازنة جغرافيا أحد الأنماط السائدة في المنطقة والتي قادت لزيادة معدلات الهجرة الداخلية نحو المدن الرئيسية مع ما يرافق هذا الأمر من تهميش اقتصادي وتحولات اجتماعية خطيرة وضغط على البنى التحتية وخطورة أمنية إضافة لعدم العدالة في توزيع الثروة الذي يقود بالتالي لتوابع سياسية سلبية.

يورد غازي القصيبي في كتابه "التنمية .. الأسئلة الكبرى" مثالا رائعا على حال مدينة طهران في منتصف السبعينات حيث تسببت سياسات الشاه في التنمية غير المتوازنة في تهميش باقي مناطق إيران على حساب العاصمة التي نشأت فيها مدن الصفيح بسبب الهجرة الداخلية لمئات الألوف من الإيرانيين، فخلال تلك المدة كان ثلث موظفي الدولة يعملون في طهران، وكان أكثر من 60% من الطلاب موجودن في طهران، وكان 50% من الأطباء موجودن في طهران، وكان 1 من كل 10 أشخاص في طهران يمتلك سيارة بينما 1 من كل 90 شخصا خارجها يمتلك سيارة، وكانت توزع في طهران 820 ألف نسخة من الصحف بينما توزع 25 ألف نسخة في باقي مناطق ايران كلها، باختصار كان الناس في العاصمة يستفيدون من فرص العمل والتعليم والوظيفة والانتفاع بالمرافق والخدمات العامة، بينما التهميش سيد الموقف في باقي المناطق. ويضيف القصيبي إن "حكاية طهران هي حكاية كل عاصمة في دول العالم الثالث".