أتذكر في مسقط رأسي "القرنية" رجلا كهلا كان يقوم بإصلاح مكائن ضخ مياة الآبار، وهذا أمر متوقع وعادي في بلدة زراعية، لكن الأمر المثير هنا أنه كان كفيفا، وكان يصلح تلكم المعدات بناء على خبرته السابقة حينما كان مبصرا، لكن مهارته الجديدة كانت تحديد الخلل من صوت المكينة فقط!
هذه القدرة العجيبة تؤكد وجود منجم هائل من القدرات الكامنة لدى بني البشر، فها هو الأميركي "دانيال كيش Daniel Kish" الذي فقد كلتا عينيه وهو لم يتجاوز شهره الثالث عشر؛ يتجاوز إعاقته بنفسه، ويبتكر أسلوبا جديدا للتعامل مع واقعه الصعب، فمنذ صغره تعلّم إصدار طقطقة غريبة بلسانه، هدفها محاولة التعرف على ماهية محيطه، وخلال سنوات متتالية استطاع أن يبتكر طريقة متكاملة لتحديد المواقع بواسطة "رجع الصدى"، كما لو كان طائر "الخفاش".
والفكرة ببساطة أن يطقطق بلسانه، مما ينتج موجات صوتية، ليرتد رجع صدى هذه الموجات بعد اصطدامها بالأسطح المحيطة، فتلتقطها الأذن على شكل أصداء مختلفة الشدة، ليقوم الدماغ بمعالجتها، وتكوين صور متحركة للواقع المحيط به. هذه الممارسة ساعدت "دانيال" على الخروج إلى العالم، والتعامل مع الآخرين كما لو كان شخصا مبصرا، حتى أنه اليوم يقود دراجته الهوائية بسرعة فائقة، وسط مدينته المزدحمة، دون أن يصيبه حادث واحد، على رغم أن ذلك يستلزم منه الطقطقة بمعدل مرتين في الثانية الواحدة! حتى يستطيع إدراك تضاريس الطريق، ليمسي "الرجل الخفاش" كما يطلق عليه أصدقاؤه.
وبعد نجاحه الباهر مع نفسه؛ أسس منظمة خيرية تدعى: "اقتحام العالم للمكفوفين"، تعنى بتعليم وتدريب الآخرين على ممارسة الطقطقة، والتي دربت حتى الآن ألف طالبٍ كفيف، في 30 بلدا حول العالم.. صدق من قال: "العمى عمى البصيرة، وليس عمى الأبصار".