الطفل مشى كثيرا صبح الأمس. كانت الشوارع المفضية إلى الحرم من كل مكان، تعج بالبشر والعطور، والفل، والكحل ورائحة الشوق تصّاعد في السماء، ولا مكان لأي فكرة أسى، فهو الوقت القصير السريع الذوبان، الذي تموت فيه مفردة الحزن، برغبة يتواطأ فيها الكل مع الوقت والمحيط والأشواق المحلقة فوق الرؤوس، وتكبيرات العيد، سيمفونية قدسية، تحيّد كل ما تطاله عيناك، حيث بهاء الملابس يزف الناس زرافات ووحدانا صوب الحرم، كما حمام يرف نصاعة في فجر تتألق فيه أصابع الأمهات وهن يرتبن قناني العطر كصبايا يتهيأن لزفة لا تنتهي. أمي آخر من كان يتزين للعيد، تدخن أصابعها في عجين الحنطة، ليحضر الصباح مضمخا برائحة الخبز الأشهى، لم تكن موجودة بالأمس، فهي هناك بين يدي الرحيم العطوف. كان وجهها يملأ المكان، أبصرتها في وجه كل أم وهي تكفكف دمع طفل أزعجه الحر وزحام المكان.

لن أنساها وهي تهيئ لي ثيابي، تلبسني بهجة العيد، فرحا صغيرا، أتخايل بالثوب دون أن أسقط، ترش عليّ قطرات من عطر قلبها، وتدفعني بحنان لفضاءات البهجة، مختلطا بالجموع التي تفوح محبة صادقة، في لحظة نادرة، تذكر بعظمة الحب كقيمة، تمنح الوجود ألقا إن علت فيه.

من هذا المعتوه البليد الذي لم يفتنه مشهد الجموع وهي تسير لصلاة المشهد، أطفال وطفلات أنيقات، رجال ونساء يسيرون رفقة، في اختلاط سام ونبيل، مبتسمين، وحنين إلى الله، نحو بيته العتيق يميزهم، والفرح يغمر الجميع بتفاصيل تسرب طاقات تتبادلها الأجساد بإشراق روحي عصي على الوصف!!

أن تتذكر أنك طفل، ثم تعي أن الفرح يمتد من الطفولة حتى المغيب. فهذا يعني أن في الحياة ثم أغنيات لم تغن بعد، وقصائد لم ترتل، وانتظارات ما زالت ترقبك. فهل ستجيء فاردا سهوب روحك لما هو ممكن ومتاح من ضحكات، تخلقها صباحات العيد؟

الطفل الذي مشى كما لم يمش من قبل، لم يكن أنا، لم يكن هو، قدر ما تخيلته، غدا أخضر يفتح مسردة في ممرات الوجود، رغما عن كل ما قد يطحن الذاكرة.

الحياة الأقسى هي تلك التي لا نستعيد فيها طفولتنا. ولا نمشي فيها معا رجالا ونساء وأطفالا وطفلات نفيض بسمات وتفوح منا رائحة عطر العيد ومحبته، والجموع تتبادل القبل حتى تملأ ذاك النهار رائحة تطغى على جهامة التحولات وبشاعتها. طفولتنا حظيت بمقومات كانت تدك أعتى معاقل الجهامة. بالأمس استعدت كثيرا منها.. حتى وإن تعب الطفل الذي مشى، ودون أن أعرف هل أدرك العيد حقا!