اليوم عيد.. والمفترض بنا تفقد ذائقتنا الفنية وترميم جاهزيتنا النفسية والمعنوية والنقدية لتبادل التهاني وتراشق القبلات وإشهار دولة الفرح العظمى بين أبناء الأمتين العربية والإسلامية وأمم وديانات الأرض التي تشاطرنا حالة البهاء الروحي المفعم بقيم السلام والتراحم وحب الإنسان لأخيه الإنسان.
ترى.. هل تستكثر هذه الأمة على نفسها مسرات يوم أو بضعة أيام لتناغي رضيعا يغثو وتراقص أغصان الزيتون في طولكرم ومحميات غزة وتهب المحارب المثقل بالأتراح استراحة يعتني خلالها بخلاياه المتعبة ويربت بحنان على كتفي الأمل الصريع والحلم المجهد؟.
أقول.. هل فعلاً نستطيع الفرح أو القيام بعمل ما كنا نألفه قبل الانغماس في ترع السياسة وعصبيات الأيدلوجيا ومراصد العسس النابت في إبط كل منا..
وكيف يكون عيداً وشبح آليات القتل من دون طيار يخيم على مدارك الضحايا، بل كيف يستقيم معنى العيد والدكتور الظواهري، ينشر وصايا الموت المجاني عبر الأثير متقرباً إلى الله برؤوس الآمنين والمستأمنين العزل؟
أتحدث عن الظواهري مع أن تصريحاته الأخيرة لا تعدو الغطاء المكشوف لحملة تخويف أميركية في مواجهة العجز عن توقع مفاجئات تاريخية كانت شهدتها الساحة المصرية، واندلعت شراراتها دون اعتبار لسيناريو الاستحواذ على إرادة الشعوب وإعادة الاعتبار لحلفاء الحرب الباردة!
نحن بحكم وقوة الأمر الواقع لا نملك إلا المضي نحو فخاخ ما سنطلق عليه لاحقاً مسمى العيد..
العراقيون يتهيؤون لمسراته وأطباقهم تمتلئ كعكاً وحلوى لكن السيارات المفخخة لا تأكل الكعك ولا تقتات الحلوى.
وفي لبنان، مشاتل بديعة ومتخصصون في تنسيق باقات الورد بيد أن الميليشيات المسلحة تتهادى خزنات البنادق لا شهقات البنفسج.
ولدى أشقائنا في الخليج كنز أسود له بريق الذهب ويمكنه إعادة البسمة إلى المجتمعات العربية الجائعة وصناعة وإنتاج وتصدير الكرنفالات المبتهجة في أكثر الأماكن عتمة، فما الذي جعل بعض تدفقات السائل اللزج توزع الكوارث أو تتعهدها في مختلف الأرجاء.
عيد.. وفرقاء الصراع في اليمن يتقاسمون آهات الفقراء ويتوزعون ريع أكفان الشهداء.. ولئن كان صوم رمضان فريضة شرعية يؤديها أبناء هذا البلد إيماناً واحتساباً لوجه الله فلوجه من يصوم الناس كل أيام العام!!
أدري مقدار ما يبذله معظم المواطنين العرب والمسلمين من مشقة وجهد في سبيل الاحتفاء بأعيادهم الدينية ومناسباتهم الاجتماعية سيما بعد ظهور الحقبة الرأسمالية وتواري دور ووظيفة الطبقة الوسطى وتقليص مساحة الأمان الاقتصادي أو بالأحرى منطقة التوازن بين تركز الثروة في يد القلة وإمكانات العيش الكريم للسواد الأعظم من الشرائح الاجتماعية الموسومة بضيق ذات اليد.. غير أن جهود البسطاء لإظهار السلو يكتسيها شعور دفين بالمرارة وإحساس عميق بأغبان يافع يتلصص لسرقة ملاليم من خزينة زوج والده المقعد، ولكم هو فادح بالنسبة لمتوسطي الدخل عند التحاقهم بشرائح المعسرين، حيث تتكدس المعاناة البشرية فوق بعضها وتصبح الأعياد ضائقة تجرح كبرياء الرجال وتؤذي عواطف الأطفال وتدمر استقرار غشرات الأسر المعدمة لهذا يضطر الناس لمقابلة المناسبات السارة بالكثير من التصنع وخوض معارك شرسة في مواجهة نزاعات الازدراء.
هل كانت الحياة سيئة ومقززة على هذا النحو خاصة في الحقب الزمنية من عمر جيلين سبقا.. وإذا لم تسعفنا الذاكرة بتفاصيل عشناها في طفولتنا المبكرة فما الذي يمكن التقاطه من أفواه المعمرين.. أكانت الأعياد والمناسبات الاجتماعية السارة بهذا المستوى من "التشائل" أقصد افتقاد المذاق، غياب القيمة، اختفاء المعنى، انعدام الوهج؟
ربما أكون شديد التأثر بإفرازات واقع مختلف لا يقدم للحياة لوناً مائزاً يخصه أو يسجل كعلامة على جدلية علاقته الحيوية بالأشياء، لكنه رغم ذلك يأنس لافتراضات تحمل سحنة (الكابوي) و"بروشتات" الترويج لمجتمع ديزني وسيكون عليه الاحتفاء بجائزة نوبل وقضاء بعض الوقت على منطاد التاريخ المشترك لشمعون بيريز، بحكم الزمالة في حمل قلادة التكريم الدولي لتراث الأصوليات الإسلامية..
انتهى إلى سؤال مزعج.. ماذا لو قرر الإنسان في بلداننا العربية والإسلامية الإفراج عن مكنوناته الحقيقية أثناء المناسبات الفرائحية فكم كتالوجاً سريالياًّ سيصبح لدينا من موسوعات التراث البكائي المتخفي وراء ستار الفرح الزائف والأعياد الطافحة بمواجع الفقراء وسوء الاحتشام في أوساط المترفين.