قليلة هي الأعمال الدرامية التي تحقق معادلة " الفن للفن والفن للحياة"، أي اقتران الجمال والمتعة بالفائدة، بحيث تحفر في عمق التجربة الإنسانية، وتقارب الواقع لتعيد صياغته من خلال التجسيد التعبيري للحظة الانفعالية، والتكثيف الإبداعي للحالة الوجدانية التي تمثل حالة إنسانية مشتركة يتماهى معها المشاهد ويبدأ في استعادتها كصدى مؤجل لما حدث ويحدث فعليا له وبقية أفراد المجتمع، لكن بوعي وإدراك تفاعلي تولد عن هذه الذروة الإبداعية. الفن لا يقرأ الواقع فقط ، لكنه، متى ما كان راقيا وصادقا، يصنع الواقع عبر تجديد تلقينا ورؤيتنا لما حولنا، ولما اعتدنا عليه داخل منظومة العادات والقيم التي تفرضها ثقافة مجتمعنا. ومن هنا يحدث التغيير، وإعادة النظر فيما لا يتوافق مع الفطرة الإنسانية السليمة، ومع العقل والمنطق الحضاري. وهو بهذه الصورة المثالية يمثل الحياة التي نطمح لها بعد إزالة الشوائب التي اكتشفناها في مرآة العمل الفني المكبرة أثناء استمتاعنا بجماليات التصوير الإبداعي لحالة أو قضية ما، اقتنصها الضمير الفني وكثفها من أجل تحريض وعي المتلقي، وهز قناعاته، ومحاورة إدراكه.
يبرز "طاش ما طاش" من بين ركام المسلسلات التي تتكدس بها ليالي رمضان عاما بعد عام. لقد أثبت هذا المسلسل منذ سنته الأولى أنه موجه لبناء المجتمع ، وأنه يحمل رسالة سامية هدفها إلقاء الضوء على قضايا المجتمع وشد انتباه المسؤولين، وتفكيك البنى التحتية لبعض المفاهيم والعادات الخاطئة. ورغم استهجاني لبعض المشاهد الكوميدية المبتذلة المبالغ فيها حركيا وتعبيريا، أو التي تستخف بعقلية المشاهد، إلا أن المضمون في "طاش ما طاش" ظل وفيا للمجتمع ولصيقا بهموم أفراده، وجريئا في تشريح مواطن الخلل. ورغم النقد الحاد، والهجوم الذي تلقاه المسلسل بسبب أسلوب تعاطيه مع قضايا التشدد، والإرهاب، وأخطاء أخرى، إلا أنه استمر وبشكل تصاعدي في نقده الساخر لسلبيات المجتمع.
ويمثل "طاش 17" في نظري قمة النضج الفني والإبداعي لهذا المسلسل/ المشروع، والعلامة الفارقة في جبين الدراما السعودية، تشي بذلك الحلقات الثلاث الأولى التي شاهدتها؛ وكما يقولون : " ليالي العيد تبان من عصاريها"! فالحلقتان الأولى والثانية ناقشتا قضية دينية ثقافية تتعلق بإشكالية العلاقة بين المسلم والنصراني، وتؤصل لمبدأ الحوار بين الأديان الذي دعا إليه الملك عبدالله، تصل في جرأتها إلى خلق علاقة قرابة من الدرجة الأولى بين قطبي المسلسل والقس اللبناني بطرس! أما الحلقة الثالثة فهي محاكاة ساخرة "parody" من منظور عكسي لتعدد الزوجات، واستمراء الرجل لهذا الحق بدون عذر أو وجه حق، رغم الجرح الذي يسببه للزوجة. وهو ما حاولت نادين البدير إيصاله في مقالتها القنبلة" أنا وأزواجي الأربعة"، وجاء "طاش17" ليطلقه صاروخا حارقا لقلوب الذكور، وصرخة ألم انطلقت من حناجر أزواجها الأربعة.