يقدم الناس دعوات متكررة وملحّة في كثير من الأحيان للآخرين لإنشاء حديث مشترك. لحظات الانتظار هي من أكثر اللحظات شهودا لمثل هذه الدعوات. الناس في صالات انتظار المستشفيات أو المراجعات الحكومية يكسرون حاجز الصمت وقلق الانتظار بتقديم دعوات مختلفة الأشكال والأنواع للحديث. الشكوى عادة ما تكون طريقا سالكا لمثل هذه الدعوات. الشكوى عامل مشترك وقادر على جلب اهتمام الطرف الآخر وهذا عامل جوهري في أي دعوة، إغراء الطرف الآخر بالمشاركة. الشكوى من طول الانتظار أو بطء الموظفين أو سوء مكان الانتظار تحيل إلى تجربة مشتركة يمكن من خلالها تحقيق حديث مشترك وبداية لعلاقة جديدة غالبا ما تكون مؤقتة ولكنها في أحيان تمتد لفترات أطول مما يتوقع كل الأطراف.

الدعوة بطبيعتها تعطي الطرف الآخر حق رفضها وإلا اعتبرت أمرا وفرضا. كثير من الناس يختبر هذا الأمر بسرعة ويرى أن إصرار الطرف الآخر على الاستمرار في الحديث رغم عدم التفاعل معه يعتبر فرضا لا دعوة مما يؤدي به للانصراف أو الهروب من هذه العلاقة المستحدثة. كذلك، بما أن الحديث هنا دعوة فإنه لا يتأسس إلا بموافقة ومشاركة الطرف الثاني. مشاركة الطرف الثاني وقبوله للدعوة توازي في عملية الإنشاء لهذه العلاقة قيمة ودور الدعوة الأولى. إلا أن هذه الموافقة ليست واحدة فقط في بداية الحديث بل هي موافقة تتجدد مع تعرّجات الحديث وتلوّناته. إنها موافقة تحتاج إلى تأكيد ودعم مستمر لتغذية العلاقة الجديدة. حماسة كل الأطراف للحديث ومشاركتهم فيه وإيراد القصص والمعلومات وإبداء التفاعلات والاستماع كلها علامات لتجديد قبول الدعوة للحديث. بعد الإنشاء الأوّلي للمحادثة يتبادل الأطراف دور الداعي ومجيب الدعوة، المستضيف والضيف وإن فشلوا في تحقيق هذا التبادل فإن العلاقة الناشئة حديثا معرضة للانقطاع والوصول إلى نهاية.

أهداف هذه الدعوات للحديث كما ذكرنا أعلاه قد تكون مجرد كسر لحاجز الصمت وقلق الانتظار وهرب من الأفكار الذاتية وإعادة التفكير في قضايا شخصية مقلقة إلى أفق جديد ومختلف يعتبر إمكانا للتسلية والتغيير وقضاء وقت ممتع. كل هذه مواقف إيجابية من الآخرين بمعنى أنها مواقف تتضمن الإقرار باحتمال وإمكان العثور على ما هو أفضل من الانكفاء على الذات أو الانغلاق على الدائرة الشخصية. إلا أن هذه الدعوة هي في الأخير مغامرة ربما ضيقة المخاطر لكنها تبقى غير مأمونة النتيجة خصوصا حين تكون خبرات الناس لا تدعم تماما وجود نتائج إيجابية للمبادرة بالتعرف على الآخرين. في مجتمع مثل مجتمعنا قد يفسّر الناس محاولة البدء بالحديث تفسيرات مختلفة ترتكز تحديدا على أن هدف الحديث ليس هو الهدف المشترك الناتج عن الموقف المشترك بين الطرفين بقدر ما هو هدف خاص جدا بالطرف المبادر كبحثه عن مدخل للاستغلال المادي أو العاطفي أو أي شيء آخر. لذا يجد كبار السن مثلا فرصة أوسع للمبادرة باعتبار ثقة الناس نوعا ما في نواياهم. الفتاة والشاب يواجهان الفرص الأقل خصوصا في المحادثات بين الجنسين.

الفقرة السابقة ترتكز على فكرة مدى توافر سياق آمن للحديث بين الناس. الخائفون عادة يتجنبون الحديث للأغراب ومع ارتفاع نسبة الأمان عادة ما ترتفع نسبة مبادرات الناس للحديث للأغراب وبالتالي ترتفع احتمالات التواصل والالتقاء بين الناس. لنفترض الآن أن الدعوة للحديث قد أطلقت وأن قبولا قد تحقق بين طرفين أو أكثر. العلاقة الجديدة هنا كالمولود الجديد لا تزال ضعيفة وتحتاج إلى رعاية وتغذية مكثّفة لإبقائها على قيد الحياة لأطول وقت ممكن. لذا يلجأ الناس، أصحاب الفرص الأعلى للنجاح، لإبداء درجات أعلى من الأدب والاحترام والذوق العالي للحفاظ على هذا المولود الجديد وحمايته من نهاية غير جيدة. العامل الجوهري ضمن هذه الحسبة هو محاولة الإبقاء على الحديث على أنه أولا: مشترك، وثانيا على أنه ضيافة. الشرط الأول يتطلب أن يتحقق الحديث، في المساحة البينية. أي المساحة المشتركة بين الطرفين وأن لا ينجذب إلى حيز واحد ويترك الطرف الآخر غريبا مشاهدا لا مشاركا. قلنا قبل قليل إن هذا يتحقق باختيار موضوع مشترك أو قابل لأن يكون مشتركا بسهولة بين الأطراف. الموضوع عامل مهم لكنه ليس كافيا. سلوك أطراف الحديث وموقف كل منهم تجاه الآخر عوامل أساسية أيضا. بمعنى القدرة على ممارسة الكلام والاستماع بشكل تبادلي موزون يعطي الحديث فرصة أوسع للاستمرار. لا يعني هذا عملية تبادل "أتوماتيكية" لأدوار الحديث والاستماع بقدر ما هو ممارسة هذه الأدوار تحت الرغبة الواعية بإبقاء هذا الحديث في المنطقة المشتركة المفتوحة للطرفين. الاستئثار بالحديث يعتبر خطرا داهما على الحديث، وكذلك عمليات نفي الطرف الآخر من خلال تقديم مضمون عنصري أو منحاز أو غير متسامح يغلق المسارات أمام الطرف الآخر للمشاركة. الشرط الآخر هو أن يبقى الحديث عبارة عن دعوة للضيافة، والدعوة كما قلنا لا تؤسس حدثا إلا مع موافقة الطرف المدعو وتحوله لاحقا إلى داعٍ لا أن يبقى مدعوا وضيفا باستمرار. أيضا دعوة الآخرين تحتوي على التزامات أخلاقية لن تتحقق الدعوة بدونها.

هذه الالتزامات تعني أن يتحلى الداعي والمدعو لاحقا بأخلاق الضيافة وأعني بها هنا كل السلوكيات التي تجعل فضاء الحديث مفتوحا للجميع. هذا يتضمن إدراك حرية كل فرد وقدرته على التفكير والمشاركة. إدراكه كطرف مساوٍ في علاقة مشاركة لا هيمنة، وكذلك إدراك فضله في المشاركة وتشكيل هذه العلاقة الجديدة. هذه مقدمة عامة لحديث قد يطول عن الحوار كضيافة. لا بد هنا من القول قبل الختام: إن الحديث الناجح هو وحده من يملك الاحتمال للتطور إلى حوار بالمعنى العميق للكلمة. بل عادة هو البوابة والمدخل إلى الحوار الذي هو هنا ضيافة تجمع الناس ليتعرّفوا على بعضهم البعض.