الذي يحدث في العالم العربي الآن، إلى أي مستقبل يأخذنا، وما هي العبر والدروس التي نتعلم منها الاعتبار؟
تفجر العنف في تونس.. ثم هرب الرئيس، يومئذ وجدنا أنفسنا أمام مشهد سياسي مشحون وبدا لنا وقتها كأنه وضع خطير مخيف بعدما انطلقت البغضاء والشحناء من نفوس إخوة الكفاح، وخوفا على أهلنا هناك في تونس قلنا.. ليت فيهم رجل رشيد، ليت فيهم مثل حكيم أفريقيا.. مانديلا، الذي قال للناس في بلاده بعدما انتصرت مسيرة الكفاح: تعالوا إلى كلمة سواء، والآن انظروا بأي حال هي جنوب أفريقيا.
حينئذ كان المشهد التونسي مخيفا ولم نكن نعلم ماذا سنشهد في ليبيا، ثم المذبحة العظيمة الجارية في سورية، والآن نترقب الأحداث بخوف وحذر في مصر!، أما العراق فمنذ بدء الاحتلال ومشهد التفجير والدماء والأشلاء أصبح أمرا طبيعيا، بل هو القاعدة وليس الاستثناء، تمر عليه الناس كأنه من الأمور العادية المألوفة مثل شروق الشمس وغروبها أو مثل تدفق الفرات من الشمال إلى الجنوب، لا جديد في الأمر!
والمفارقة المؤلمة أننا الآن في صلواتنا وأدعيتنا كل بضعة أشهر نضيف مشهدا مأساويا جديدا حيث نتضرع إلى الله سبحانه وتعالى أن يحقن الدماء ويوحد الصف في أقطارنا! كانت فلسطين قبل سنين بعيدة هي فجيعتنا الكبرى.. والآن: أين هي قضية العرب المركزية.. مع الأسف غابت عن المشهد!
في هذا الوضع المأساوي ربما تمنينا، وما زلنا نتمنى، أن نستنسخ أكثر من مانديلا.. ليجمع الناس ويقول لها: إن التحدي الحقيقي هو في جهاد النفس، وأن الهدم والخراب سهل دربهما، وأن إصلاح ما أفسده الدهر لا يأتي في يوم وليلة.
هذا المشهد المأساوي في العالم العربي فجّر فينا المعاناة، وكل يعبر عنها بطريقته، هناك من يريد مزيدا من الخراب والقتل، وهناك من ينتهز الفرصة لغايات في النفس، وهناك من يضرب أخماسا بأسداس حسرة وحرقة، وهناك الحليم الحيران، وهناك من فجرت فيه المعاناة الممتدة إبداعا مكنونا، نستمتع به رغم مرارة الألم، ومن هؤلاء أستاذنا الكبير (سمير عطالله)، فمنذ عامين ونحن نتطلع إلى إنتاجه الفكري الذي تتجلى فيه لمحات الأدب والتاريخ والسياسة والجغرافيا، وما بقي في الذاكرة من حصاد السنين، يسوق ذلك وهو يحاول فهم ما يجري، لعله يرفع قليلا من المعاناة، (كمن يوقد شمعة في الظلام)!
حالة الأستاذ سمير تذكرنا أن الإبداع تستفزه المآسي والآلام، والمشهد اليومي العربي يحمل كثيرا من هذا، ولا بد أنه الآن يستفز الإبداع لدى كثيرين، ومن رحم هذه التراجيديا ثمة ألم وألم يصادم مكنون النفوس، وبدون شك سوف يولد أعمالا إبداعية في الرواية والشعر والمسرح كما في المقالة الصحفية اليومية، وهو ما نلمسه بوضوح في إنتاج أستاذنا الحبيب سمير عطالله، أطال الله في عمره وحفظ له صحته، إننا نشفق عليه مما يرى!
في التاريخ القريب والبعيد، الأعمال الإبداعية الخالدة خرجت من رحم المعاناة، وعبر مسيرة الإنسان الطويلة ظلت الأيام والسنون حبلى بالأفراح وبالأتراح وتلد كل عجيبة، واستمتعت البشرية بهذه الأعمال، وكانت الملهمة للإبداعات في عمارة الأرض أو: محفزة وباعثة لخرابها!، وفي ظروفنا المعاصرة نتمنى أن تخرج من صنوف المعاناة للملايين من الناس في العالم العربي الأعمال الإبداعية التي تساعد الناس على إعادة اكتشاف ذاتها، بالذات الأعمال التي تقودها إلى التفاؤل والأمل بما هو جميل في حياتنا.. الناس والشجر والمطر والحجر والدواب، وبالذات الأمل بالله سبحانه وتعالى مقدر الأمور من قبل ومن بعد.
أحيانا نتطلع إلى أن ننهمك في العلاج بالأمل. الطب الحديث بدأ يكتشف أن العلاج بالأمل مفيد ويساعد الجسم على مقاومة الأمراض المستعصية عن طريق تحفيز دفاعات الجسم، ورسولنا العظيم عليه الصلاة والسلام يقول "تفاءلوا بالخير تجدوه".
لقد جرب العالم العربي حل مشاكله بالعنف، ولم ينجح هذا المسار، بل قاد إلى عثرات بعد عثرات، والمؤسف أن بؤر التوتر والصراع والمشاكل الحية القائمة الآن في عالمنا المعاصر هي في العالم العربي. تأملوا خارطة العالم: الأمريكيتان في هدوء، أقصى الشرق مشغول بالإنتاج والبحث عن أسواق جديدة، وأوروبا مرت بأزمة مالية كبيرة وخطيرة، وأزمتهم يواجهونها الآن بالعمل الجماعي القائم على التضحية الشاملة، كل ضحى للمصلحة العليا لبلاده. البسطاء والأثرياء قبلوا القرارات والتشريعات التي فرضت الضرائب العالية والتقشف الواسع في الإنفاق، المهم لا حروب أو دماء، فهذه مع الأسف فقط متاحة الآن في المشهد الإعلامي العالمي في العالم العربي!
أرجوكم.. هذا ليس جلدا للذات، ولكنه إحساس بالألم، وهو إحساس لن يرقى إلى الإبداع والإلهام، ولكنه دعوة للاحتفاء بالإبداع الذي يخرج الآن وسوف يأتي من هذه التراجيديا الكبيرة!
محمود درويش، عندما انطلقت ثورة الحجارة الأولى، تدفقت علينا معاناته عبر رائعته (عابرون في كلام عابر).. وأدب المقاومة الفلسطيني قدم الكثير من الروائع، وكنا نستمتع بهذه الإبداعات، رغم مرارة الألم. رواية عبدالرحمن منيف (شرق المتوسط) عندما قرأناها قبل سنين بعيدة كنا نعتقد أن الأحداث المرعبة التي تنقلها الرواية هي من التاريخ ولا تخصنا، ولكن الآن انظروا إلى شرق المتوسط، انظروا إلى لبنان، إلى سورية، ثم العراق ثم إيران. هذه المأساة القائمة ماذا ستحمل لنا مع قادم الأيام؟ آه... كم مانديلا نريد، وسلامات لكبير الحكماء العليل الذي يقف العالم كله على أطراف أصابعه يترقب أخباره الطيبة.. يريده حيا، أنفاسه فقط!!