"أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، هو تعريف "الإحسان" في الحديث النبوي الشريف، أحد مراتب الدين الثلاث وأعلاها، بعد الإسلام ثم الإيمان، وحفظناه منذ كنّا في المدارس صغارا دون أن يجد طريق ما نحفظه إلى أفعالنا وأخلاقنا وتفكيرنا، وأتذكر جيدا شروحات معلمات الدين وحتى يومنا يحتاج معظمهن وزملاؤهن في مدارس البنين إلى إعادة تأهيل في فهم الشريعة الإسلامية، حين توقفوا إلى أن الإحسان خشوع في عبادات الصلاة والصوم وعدد مرات ختم القرآن الكريم وحج وزكاة دون أن تتسلل أخلاقيات هذه العبادات إلى تصرفاتنا وحياتنا ونمط تفكيرنا، ولهذا معظمنا يُعاني من "شيزوفرينا" أو "فصام" بين ما ننظر له من أخلاقيات ونراقبه في الآخرين وما نمارسه من سلوكيات! إنه الواقع الذي تجد فيه الأم مثلا تضرب طفلها لأنه كذب عليها وبذات اللحظة تجعله يرد على الهاتف ليخبر صديقتها أنها "نائمة" لتتابع مسلسلها المفضل!

أحاول أن أخرج الإحسان من دائرته الضيقة، وأراه كما "الصلاة" علاقة تجعل تصرفاتك وأخلاقك في صلة مباشرة مع الله تعالى خلال يومك وأيامك، "صلاة" تمارسها في سلوكياتك تتوطد حين تُمعن في الإحساس برحمة الله وجماله وجلاله وعظمته في كل التفاصيل التي تحيط بنا ونتخذ منها موقفا، حتى حين ترتدي ملابسك وترش شيئا من عطرك على جسدك، ليس ليُعجب بمظهرك الناس أو لأنه مظهر اجتماعي لا بد منه، بل لأن نفسك وجسدك يستحقان الإحسان منك عليهما، تقديرا لنعمة الحياة والجمال حين أبدعك الخالق. الإحسان يجعلك تقود سيارتك في الطريق العام وتُحسن القيادة فلا تؤذ من جاورك بسخط أو شتم، أن تُحسن أداء وظيفتك ليس خوفا من فصل أو خصم أو رغبة في علاوة بل لأن ذلك مهمتك في الحياة لتعمير الأرض التي استخلفك عليها من وهبك حياتك، الإحسان أن تسقي زرعة أحرقتها الشمس، وتضع صحنا صغيرا على نافذتك كي تسقي حمامة قد تمر أو لا تمر بنافذة شقتك، الإحسان أن تميط الأذى عن الطريق خشية مضايقة عابرين خلفك ولو كان مجرد "نملة" تذب عن رزقها في الأرض، أن تُحسن في أهل بيتك حتى يكون سائقك وعاملتك منهم في المرتبة عطفا وكرما، أن تُحسن لزملائك والناس في غيابهم قبل حضورهم على اختلاف مذاهبهم وأديانهم وأعراقهم.. ضعيفهم قبل قويهم، أن تحسن في كلامك مع الآخرين إحسانا للسانك قبل الآخرين، وفي فعلك لأنك تملك القدرة على الآخرين، ويكون عالمك الافتراضي كما واقعك ولو باسم مستعار.

باختصار؛ الإحسان يكاد يكون رؤية كل ما يصدر من سلوكيات ومعاملات ليست واجبا دينيا أو أخلاقيا أو قانونيا بل كما "الصلاة" علاقة مباشرة ومستمرة مع الخالق، تجعل العطاء نابعا من القلب وداً ومحبة وطمعاً لأن يكون من المحسنين الذين يحبهم ربّ الكون، فحبّه خلقه وكائناته ويحسنوا له، حتى ذلك العطر الذي يرشه على جسده سيحبّه.