إن فطرة الإنسان خيرة في تعريفه معنى الخير، في توجيه سلوكه إلى الخيرية وليس معنى هذا أنه ملاك لا يحسن إلا الخير، إنه يحسن الظن بالفطرة الإنسانية ويحاول إزاحة الشوائب حولها لحضور إنسان فاضل لاسيما في العلاقات الإنسانية اليومية، فإذا وقفنا على مسألة منها، مثل مسألة الأخذ والعطاء، بعضنا ينظر لها على أنها تعادل البيع والشراء والربح والخسارة فيتعاملون من خلالها في إطار ثقافة بئيسة هي: "إذا اتصل بي.. أتصل به! إذا أهداني... أهديه! إذا حضر عزومتي.. حضرت عزومته، حتى العزاء. حتى الأجر... حتى السلام.. حتى الكلام.. حتى المصافحة".

ونحن القراء ننقسم حيال هذا التعامل بين بني آدم إلى فئتين: الأولى تنظر إلى أن أغلب الناس يتعاملون وفق هذه الثقافة، ولكي يتخلصوا من وصمتها يفضلون العلاج ـ الأكثر إيغالا في السلبية ـ الذي طرحه عائض القرني: (العزلة الشرعية)، وقد يرون أن العطاء حاضر في ذواتهم وبنية خالصة (ولا تنس نصيبك من الدنيا)، ولذا يشعر في دخيلة نفسه بأنه يحمل بين حناياه قلبا زكيا، ونفسا تقية، وكأن الآخر لا يعرف هذا الإحساس. إنه شعور منبوذ ذو دلالات نافرة.. وقد يظهر ذلك بسبب عدم مراجعة للذات للوقوف على عيوبها، واستقراء رد فعل الآخرين بين فينة وأخرى. إن انتقاد الإنسان لذاته باستمرار أمر مهم دلالة على مستجدات ثقافيه ورغبة في تحسين الصورة.

الفئة الأخرى؛ تتعامل مع الثقافة البائسة باتساع أفق مرن متفهم، فترى أن العزلة صعبة, تولد الجفاء, وتضعف التأثير المعتدل، وممكن تعطل مصالح مشتركة حتى ولو كانت شرعية والأفضل الاندماج والعطاء والكرم بنفس سخية وإن كان الأمر أصعب.

أتساءل؛ هل الذين يتعاملون وفق ثقافة البؤس يشعرون بارتياح وانتشاء كما هو الحال لحظة العطاء غير المحدود ودون مقابل، أم يشعرون بما يشعر به المشتري والبائع؟ لنختبر أنفسنا على غرار كيف يعرف الإنسان درجة ثقته بنفسه، أو كيف يعرف أنه شخصية جذابة؟

ممكن يرى بعضنا أن الذين يفضلون العزلة يحرمون الآخرين من عطائهم، هنا نتذكر قصة العابد والعامل، الأخير يكرس كل وقته للنفع الخاص والعام، بينما العابد خيره لذاته وهو الخير المغري لكنه الأناني، فالعزلة تتطابق مع العابد, فإذا قبضنا على الأمر من الوسط لن نخسر خاصة الأمور ذات البعد العاطفي تتطلب منا أن نقدم ولا ننتظر المقابل, ولن تنمو وتترعرع عواطفنا الإيجابية تجاه بعضنا إلا في حالات الجود والكرم الإنساني غير القابل للربح والخسارة.

إن احترامي للآخرين لا يعني أن أسلم بكل قناعتهم، ولا يعني أني أفضل منهم. إن الإنسان ذا الثقافة المعتدلة لا بد أن يضع في تصوره أنه سيجد أصنافا من الثقافات السلوكية، فإذا اقتنع بهذه الطبيعة لن يتوتر ويضطرب إذا واجهته مثل تلك الثقافة البئيسة، فإذا ركز تفكيره مع تلك الأصناف سيشغل نفسه عن عيوبه (من راقب الناس مات هما)، وإذا حاول المرء المعاتبة، مثل قولنا في نهاية الزيارة أو الحوار: "يعني ما أستحق زيارتكم إلا إذا زرتكم"، ممكن يعتذر بظروفه فيطلب منهم التكرم بالالتقاء به في بعض الأوقات لأنه يحبهم ولا يريد الانقطاع عنهم، ومع ذلك يجد تمسكا منهم بنفس الثقافة يستحيل الحياد عنها، وإذا حاول تمريرها يعتذر بظروفه وبذلك تخرج من (المولد بلا حمص) فإذا أمسكت عن العتاب وهو الأفضل ـ كما أرى ـ لأنني مقتنعة بقول الشاعر (إذا كنت في كل الأمور معاتبا.. صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه)، فإذا نالك جرح أو مسك نفور من التنازل ولو لمرة واحدة، فلتكتم شعورك عنهم ولا تنتظر أن تعدل ثقافتهم السلوكية ببساطة، ممكن السر في ذلك المداومة على ذات النمط، وإذا كانت الطباع المتمكنة في ذات صاحبها لا تفكر بالتغيير والخروج عن المعتاد بين الحين والحين فلن يفلح علاجها، وإنما يتغلب على بؤسها عامل الحفاظ على الود والتواصل بعيدا عن فلسفتك الأخرى.

إن تغيير السلوك ممكن ببساطة مع البعض، لكن آخرين "مقولبون" بحكم الاعتياد. نحن نعرف أن الإنسان خلق وهو مهيأ للارتقاء فيظهر أنه قادر على تحقيق الأمور العالية وإهمال الجوانب الأقل شأنا كما يقدرها صاحبها، وقد يكون مصدر ذلك ـ كما أسلفنا ـ وجود قناعة بأنه على حق وأن ما يفعله أمر غير نافر ولا مستغرب.

إن الثقافة الإيجابية في ذات الإنسان لا تتكون فجأة ولا تولد كاملة، بل تكتسب وتنمو على مكث، وعلى مراحل وفق حظه من الثقافة المطردة سواء تجارب أو معارف.. ودمتم كرماء أجوادا.