ها نحن سنفارق شهرنا الكريم.. شهر اعتاد التفلت من بين أصابعنا؛ فما إن يقبل حتى يودع، ولننتظر مجددا مرور عام كامل، نخشى فيه ألا نتمكن من أداء حقه كما أُمرْنا، ومع هذا نجامله بطقوس تكاد تكون خالية من الروحانية.. نعم.. نحن نصوم بحمد الله، ونصلي ونعمر المساجد ونلازم كتاب الله بحمد الله ومنته.

ولكن من جهة أخرى يلهو بعضنا بلهو لا نمارسه في الأشهر الأخرى، فبعض القنوات التلفزيونية تعمد مع سبق الإصرار والترصد لبذل الملايين لنثر بذور اللهو في أجوائنا الرمضانية، ولنجد بعضنا مع الأسف يحرص أشد الحرص على متابعة مسلسلات يغلب عليها الفسق، مسلسلات يمكن وصفها وبشكل عام بأنها خادشة للحياء، والغريب أنها تصبح حديث بعض مجالسنا في هذا الشهر الكريم، وبدل أن نسبحه سبحانه وتعالى ونستغفره ونتوجه إليه بالدعاء والتضرع، أصبح بعضنا يوجه أنظاره إلى قنوات معظمها ممولة بمال خاص.. وليشاهد مناظر لا تدفع أمام أنظارنا بهذا الكثافة في غير رمضان المبارك!

لا أفهم كيف يمكن لهذه القنوات أن تتعامل معنا بهذا الاستخفاف.. لو لم تجد من بعضنا التشجيع والمتابعة، فهي لن تبذل المال والجهد ولن تسخر كوادرها، إلا لتجد في المقابل أرباحا تتجاوز المعقول، ولأنها تجد ما تتطلع إليه.. بل أكثر مما تتطلع إليه، لا تهتم بروحانية الشهر الكريم، أو بمشاعرنا تجاه ما تقدم..

وقد تكون هذه القنوات قد عمدت إلى إنتاج برنامج أو اثنين لهما طابع ديني خلال هذا الشهر لتلطف الأجواء لكنها لا تجد أي غضاضة في حشو أجوائنا الخاصة في شهرنا هذا ببرامج ومسلسلات لا طائل منها لا تترك خلفها إلا الإحساس بالقرف والاشمئزاز، بل بعضها يضخم حالات فردية إمعانا في تشويه مجتمعنا، فمن يتابع تلك المسلسلات يخيل إليه أننا كمجتمع مسلم ومجتمع خليجي مجموعة من الشياطين، وكل ذلك يحدث في شهر فيه ليلة خير من ألف شهر..اللهم بلغنا ليلة القدر وأنت راض عنا.

وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد فمعظم القنوات التجارية خلال متابعتك لبرامجها الحوارية تضعك أمام دعايات يمكن وصفها بالانحلال، والمشكلة أنك قد تختار متابعة برنامج حواري أو ثقافي.. وفجأة ودون سابق إنذار تجد نفسك أمام دعاية هي في الأصل لا علاقة لها بالمنتج المعروض.. والغريب أن كثافة عرض هذه الدعايات مبالغ فيها في هذا الشهر المبارك، وتكلفة بثها بالتأكيد مضاعفة، والحل ممكن إحداثه بإيصال أصواتنا لهذه الشركات، علينا توضيح مواقفنا الرافضة من سياستها الدعائية والإخراجية التي تخدش حياءنا، علينا أن نفهم الشركات أننا غاضبون من استهانتها بشهرنا المبارك، لعلها تتفهم وتعيد النظر في سياستها الإعلانية.

إن القوة التي نملكها كزبائن تكمن في قدرتنا على تحريك عجلة السوق، والشركات التي تقبل دفع مبالغ تصل إلى الملايين في سبيل عرض دعايات خاصة ببضائعها، تهدف بطبيعة الحال من ذلك إلى تسويقها وزيادة مبيعاتها وبالتالي زيادة أرباحها، ولذا هي تختار برامج معينة وأوقات معينة لعلها تضمن من خلالها الكثافة العالية للمشاهدة.

ولأننا المستهدفون من تلك الشركات بإمكاننا كمجتمع مطالبة هذه الشركات بالامتناع عن بث إعلاناتها في تلك البرامج وعدم قبول إخراجها بهذا الشكل المقزز، علينا المبادرة إلى ذلك دون تردد.

والغريب في بعض الإدارات التسويقية لتلك الشركات المعلنة أنها: إما تجهل طبيعتنا الدينية، أو أنها توجه أنظارها لفئة معينة متساهلة اعتقادا منها بأنها الأغلبية، فئة تصوم نهار رمضان، وتفطر على برامج ومسلسلات لا علاقة لها بهذا الشهر المبارك، ولا أستبعد من تلك الإدارات التسويقية أنها تتفق مسبقا على عمولة باهظة تقبضها من القنوات الفضائية.

لقد بدأنا من الآن نفكر كيف ضاع منا هذا الشهر وكيف لنا أن نعوض ساعاته المباركة وما بقي منه يسابق عقارب الساعة؟ ولماذا لا تتشرب أرواحنا من روحانيته؟ ولماذا لم نروض أنفسنا وأجسادنا على التذلل لله سبحانه في شهر القرآن الكريم وفي غيره؟

وقد طالبت، وما زلت أطالب بإجراء إحصاءات تجريها مراكز بحثية معتمدة تتبع المنهج العلمي، تهتم بإظهار التوجه العام للمسلمين تجاه ما يعرض في تلك القنوات خلال شهر رمضان المبارك على الأقل، سواء من تلك المسلسلات والبرامج، أو البرامج الثقافية والحوارية والتوعوية والدينية، فمثل هذه الإحصاءات قد تغير سياسة وتوجه الشركات الإعلانية والقنوات الفضائية، فتوجه أنظارها لإنتاج برامج هادفة ولطيفة ومفيدة وممتعة على الأقل في شهر رمضان الكريم، وهو أمر ممكن وبخاصة أننا نجد قنوات عديدة تعمد إلى إنتاجها وعرضها، ولعل الجهات الرسمية والمجتمع المدني يشرفان على هذه الإحصاءات لضمان المصداقية التي سيحاول البعض التشكيك في نتائجها.