تحدثت في مقالٍ سابقٍ عن العنف اللفظي وكيف أنه يدمر مستقبل أبنائنا. واليوم نتحدث عن الاعتداء العاطفي، الذي يعرف بأنه النمط السلوكي الذي يهاجم النمو العاطفي للطفل وصحته النفسية وإحساسه بقيمته الذاتية.

ويشمل هذا النمط كلاً من الشتم، التحبيط، الترهيب، الإذلال، الرفض، السخرية، النقد اللاذع، التجاهل وكل صورة من صور التعبير النفسي غير المحسوس أو غير الحركي الذي له تأثير سلبي على الطفل نفسياً أو عاطفياً. وبذلك فهو يتجاوز مجرد التطاول اللفظي ويعتبر هجوماً كاسحاً مدمراً على النمو العاطفي والاجتماعي للطفل وتهديداً لسلامة صحته النفسية.

ومن صور وأشكال العنف النفسي والعاطفي تحقير الطفل والحط من شأنه وتحطيم صورته لذاته، فالطفل يرى الدنيا بعيون والديه، فإن رآها بعيونهما أنه الغبي أو أنه غلطة أو أنه غير مرغوب به أو أنه عالة، فرؤيته لذاته ستكون انعكاساً لتلك المشاعر التي يراها في عيون والديه أو أحدهما، وكذلك الحال في كثرة الانتقاد للطفل ذاته لا لعمله الشائن، كما يجهل بعض الآباء والمربين بعدم قدرتهم على الفصل بين الطفل وبين عمله الشائن أو سلوكه الخاطئ، فينتقد الطفل في حين أن الذي يجب أن ينتقد ويصحح سلوكه الخاطئ.

ومن صور الاعتداء النفسي أيضاً التضارب في أسلوب التربية، كأن يُعاقب الطفل مرةً بشدةٍ وأخرى يُترك بدون عقاب للسلوك الخاطئ نفسه حسب نفسية والديه حين وقوع هذا الخطأ. فعندما يعرف الطفل ردة الفعل التي يتوقعها لكل فعل صحيحاً كان أو خاطئاً، فإن مهارات الطفل الحياتية سوف تتطور وتتبلور بطريقة منطقية ليكتسب المنطق السليم في التفكير ويحمل معه هذه الطريقة المنطقية مدى الحياة.

ومن صور الاعتداء النفسي كذلك الترهيب والقسوة وخلق جو من الرعب والخوف والهلع في نفس الطفل، كأن تكون شدة العقاب لا تتناسب مع الخطأ أو أن تُطلب منه مهام تفوق إمكانياته العقلية والنفسية، أو أن يعيش طوال وقته خائفاً من أحد والديه، فالطفل بحاجة إلى الشعور بالأمان والمحبة كي ينطلق في استكشاف العالم من حوله في ثقة، وهذا من أهم عوامل تشكيل علاقات صحية طبيعية والتعلم والتطور العقلي والنفسي والاجتماعي.

ومن صور الاعتداء النفسي كذلك، أن يرفض أحد الأبوين طفله، وبذلك يشوه صورة الطفل الذاتية لنفسه، ويشعره بعدم قيمته، ويؤدي لتنمية أنماط سلوكية مضطربة لديه مدى الحياة لطمأنينة النفس وإعادة الثقة والقيمة المفقودة للنفس والذات، وتبقى هذه الصورة مشوهة مع الطفل مدى الحياة.

وصورة أخرى للاعتداء، هي أن يقارن المربون أبناءهم بآخرين، سواء كانوا من أفراد العائلة أو من خارجها. وهناك صور أخرى لا يسعنا التفصيل فيها في مقالنا هذا، مثل البرود في التعامل وعدم مبالاة الوالدين بالتعبير عن مشاعرهم أو عدم تفاعلهم التفاعل المتوقع مع إنجازات أبنائهم، أو الإهمال العاطفي، وكذلك صورة أخرى على النقيض من القسوة، وهي التدليل المفرط وحماية الأبناء من تبعات سلوكهم الشائن الخاطئ.

إن كل ما ذكرناه من صور الاعتداء النفسي والعاطفي له تأثيرات سلبية وعواقب وخيمة على المديين القصير والبعيد من ضعف في مناعة الجسم، مما يجعل الطفل عرضة لتكرار الأمراض، وضعف عام في بنية الجسم ونموه، وتأثيرات سلوكية مثل التردد أو اللامبالاة أو عدم الإحساس بالأمان أو الانطواء أو الخجل الشديد أو ضعف الثقة بالنفس والشعور بالذنب وعدم القدرة على التفاعل الاجتماعي مع الكبار أو التأخير في النطق أو الاستيعاب اللفظي أو التأخير في أطوار الذكاء واضطرابات نفسية وسلوكية وعاطفية، بل يصل إلى إيذاء الذات وزيادة نسبة الإدمان على الكحول والمخدرات وغيرهما.

وهذه التبعات السلبية هي نتائج أضرار نفسية وعاطفية، بل إن الدراسات الحديثة أبانت أن الأضرار كذلك أصابت تكوين وتطوير الدماغ عند ضحايا الاعتداءات النفسية، ففي دراسة مشتركة بين ثلاثة مراكز طبية في ثلاث جامعات في ألمانيا، توصل الباحثون إلى نتائج مذهلة، فقد وجدوا أن البالغين الذين عانوا في طفولتهم من اعتداءات وعنف نفسي وعاطفي ظهرت آثار هذه الاعتداءات في صورة تقليص نمو منطقة هامة في مقدمة الدماغ، وهي المنطقة الأكثر تأثراً نتيجة الضغوط النفسية، وقد نشرت هذه الأبحاث في مجلة علم النفس البيولوجي.

وفي دراسة أخرى لبحث ما إذا كان للعنف النفسي والعاطفي أثر على نمو الدماغ (دراسة نذرلند للاكتئاب والقلق) قام باحثان هما فان هارملن وفان تول بمقارنة صور الدماغ لـ 181 شخصا، فوجدا أن 84 عانوا من عنف نفسي و97 لم يعانوا من أي عنف نفسي، وأكدا ما أثبتته الدراسات الأخرى من أن هناك منطقة في مقدمة الدماغ كانت 7% أصغر في الأفراد الذين عانوا عنفاً نفسياً مقارنةً بمن لم يعانوا، كما لم يكن هناك فرق بين الرجال والنساء في الدراسة، وهذا الجزء من الدماغ له دور كبير في تحديد السلوك العاطفي وكيفية التعامل مع ضغوط الحياة، لذلك فإن تقليص نمو هذا الجزء من الدماغ وصغر حجمه يجعل الشخص مهيأ ومعرضاً أكثر من غيره من الأصحاء للإصابة بالاكتئاب والقلق والأمراض النفسية الأخرى.

والمؤلم في الأمر هو أنه كلما كانت العلاقة بالطفل أقوى وأقرب كان تأثير الاعتداء النفسي والعاطفي أشد فتكاً بالطفل، لذلك نجد أن معظم هذه الاعتداءات مصدره أحد الوالدين أو كلاهما، وقد ذكرت اللجنة الوطنية الأميركية للوقاية من الاعتداءات على الأطفال في أحد تقاريرها: (من المفارقات المحزنة أن عدداً كبيراً من المعتدين يحبون أطفالهم بصدق، لكنهم يجدون أنفسهم في مواجهة مواقف حياتية خارجة عن نطاق سيطرتهم ويعجزون عن التكيف معها، وربما كانوا يمقتون أنفسهم ويجدون أنفسهم عاجزين عن تلبية احتياجاتهم العاطفية الكامنة).

إن أطفالنا هم أعظم وأقدس أمانة وضعها الله بين أيدينا، وسيُسأل الآباء عن برهم لأبنائهم كما سيُسأل الأبناء عن برهم بآبائهم يوم القيامة. ومن بر الآباء لأبنائهم حُسن رعايتهم والعناية بهم من جميع النواحي، فالتربية ليست طعاماً وشراباً ولباساً وغيرها من الأمور المادية المحسوسة، وإنما هي عناية ورعاية جسدية وعقلية وروحية ونفسية وعاطفية ووجدانية.