لم يمر أي شهر رمضان منذ سنوات طويلة إلا وكانت شكوى الصائمين مواطنين ومقيمين وزائرين من ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية والغذائية، مما دفع بعض الوسائل الإعلامية إلى نشر المعاناة وتحليل أسبابها من قبل بعض الكتاب. ويجزم بعض الكتاب وشريحة كبيرة من المستهلكين بأن السبب الرئيسي هو استغلال التجار للمواسم التي يرتفع فيها الطلب على بعض السلع والخدمات مما يدفع التجار إلى رفع الأسعار، ويعيد بعض التجار ذلك إلى أسباب خارجة عن إرادتهم، حيث ترتفع بحجة ارتفاع الأسعار دولياً. وهو مبرر يرفضه المستهلكون، وأنا شخصياً غير مقتنع به، لأن الأسعار الدولية يُعلن عنها قبل شهور من استيراد البضائع ولا يمكن أن تكون في أيام، وعلى وجه الخصوص السلع المستوردة من خارج البلاد.

ويلجأ بعض التجار إلى تسعير المخزون في مخازنهم والمستورد بالأسعار القديمة بالأسعار الجديدة للواردات الجديدة والتي لم تصل بعد. وإذا افترضنا حسن النية من التجار المستوردين فإن التهمة الحقيقية هي على تجار التجزئة الذين يبالغون في أرباحهم على حساب المستهلك فقط، وأنا شخصياً أعتقد أن المشكلة الأساسية في ضعف الرقابة على تجار التجزئة. وفي غياب الوازع الديني (مخافة الله). يمارس بعض التجار سلوكهم غير الأخلاقي برفع الأسعار، وهذه قضية قديمة وليست مرتبطة فقط بشهر رمضان، وإنما هي مرتبطة بالمواسم سواء كانت الإجازات الرسمية أو شهر رمضان وشهر ذا الحجة. ورغم وجود جميع اللوائح والأنظمة الجزائية على المخالفين والمتلاعبين في الأسعار إلا أن المبررات تتعدد والحجج تبرز ويضيع المستهلك بين الاتهام ورده.

ورغم أنني أشيد بالدور الذي تقوم به وزارة التجارة في مراقبة الأسعار حسب الإمكانات المتاحة لها، إلا أنني أجزم أن من يوقف استغلال بعض التجار برفع الأسعار هي المنافسة الشريفة لهم، ولن تكون أقوى من منافسة الجمعيات التعاونية الاستهلاكية والغذائية لتجار التجزئة، وقد سبق أن كتبت وطالبت بضرورة التوسع في إنشاء الجمعيات التعاونية عندما كان عددها لا يتجاوز الأربعين جمعية في المملكة، وطالبت بضرورة إنشاء جمعيات تعاونية ضخمة ومتعددة في مناطق المملكة لتقوم ببيع السلع الأساسية الغذائية والاستهلاكية لدعم المحتاجين من ذوي الدخل الأقل من المحدود والدخل غير المحدود.. وطالبت بضرورة تبني وكالة الوزارة للضمان الاجتماعي بوزارة الشؤون الاجتماعية إنشاء إحدى أكبر الجمعيات التعاونية الاستهلاكية لجميع المشتركين في الضمان الاجتماعي، لأن دخلهم المحدود جداً لا يستوعب أسعار تجار التجزئة، ولأن الجمعيات التعاونية الاستهلاكية هامشها الربحي بسيط جداً وهدفها ليس الربح المُبالغ فيه، وإنما الهدف الرئيسي هو مراعاة ظروف ذوي الدخل المحدود، وذلك بتقديم السلعة بسعر التكلفة مضافاً إليه هامش بسيط جداً من الأرباح.. وللحقيقة فقد قدمت حكومة المملكة دعماً منقطع النظير لإنشاء الجمعيات التعاونية، وأسهمت وزارة الشؤون الاجتماعية مساهمة كبيرة في تسهيل إنشاء ودعم الجمعيات التعاونية حتى وصلت إلى 170 جمعية في المملكة، وقررت دعم المبادرات لإنشاء الجمعيات بجوائز عديدة، منها إعانة تأسيس بنسبة 20% من رأس مال الجمعية، وإعانة بناء مقر بنسبة 50% من تكلفة البناء، وإعانة إنتاج وتسويق بنسبة 50% ، وإعانة مخاطر لمواجهة الخسارة لظروف قاهرة بنسبة 90% ، وإعانة تعيين مدير للجمعية بدفع نصف المرتب الشهري، وإعانة مكافأة إعضاء مجلس الإدارة بنسبة 20% من أرباح الجمعية، بالإضافة إلى إعانات أخرى مثل التدريب وإعانة دراسات الجدوى، ومساهمة المبادرات وإعانة فنية وأخرى اجتماعية وغيرها من الإعانات، بالإضافة إلى توفير الأراضي المناسبة لإنشائها. هذه بعض الجهود التي تقدمها الدولة لإنشاء الجمعيات التعاونية. ويتخوف البعض من التجار من إنشاء الجمعيات التعاونية الاستهلاكية الغذائية، لأنهم يعلمون جيداً أنهم سيواجهون أكبر وأشرس منافسة في الأسعار، وعندها ستدفعهم المنافسة إلى تخفيض أسعارهم للحدود الدنيا.

إن من يقلل من أهمية واقتصادات نشاط الجمعيات التعاونية فعليه الرجوع إلى التقارير المنشورة بمناسبة اليوم العالمي للجمعيات التعاونية في العالم، والذي يتم الاحتفال به كل أول يوم سبت من شهر (يوليو) كل عام، والذي صادف هذا العام السبت 27 شعبان 1434هـ الماضي، وذلك بناء على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب قرارها رقم (90/47) المؤرخ في 16 ديسمبر 1992، الذي يهدف إلى نشر الوعي بالعمل التعاوني كأحد أهم العناصر المساعدة للطبقات المتوسطة والفقيرة وحمايتها من سيطرة وجشع أصحاب رؤوس الأموال الضخمة من التجار. وقد اختار الحلف التعاوني الدولي شعار (المشاريع التعاونية تبقى قوية في زمن الأزمات). وحسب آخر تقرير للحلف التعاوني الدولي فإن المعاملات التي أجرتها الجمعيات التعاونية في العالم بلغت (1,6) تريليون دولار أميركي واستطاعت أن تخلق فرص عمل لحوالي 100 مليون عامل. وقد يتساءل البعض: كيف تربح الجمعيات التعاونية بأسعارها التنافسية؟ والجواب هو أن هدف الجمعيات عند الاستيراد هو البحث عن أفضل الأسعار العالمية بقوة تفاوضية جماعية مع مجموعة من الجمعيات المتماثلة ثم خفض الهامش الربحي للحدود الدنيا، والاعتماد على أكبر نسبة بيع لتحقيق أكبر عائد بسيط. وهنا قد نستطيع وقف ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية وتحجيم سيطرة تجار التجزئة.

وأخيراً، هل يجد ندائي اليوم من يتبنى فكرة إنشاء جمعيات استهلاكية وغذائية ضخمة في جميع مناطق المملكة، توجه خدماتها التجارية لطبقة الفقراء ومحدودي الدخل ولمئات الآلاف من مشتركي الضمان الاجتماعي، والمتقاعدين.. أكبر المتضررين من ارتفاع الأسعار مع ثبات دخولهم؟