-1-
لأول مرة في التاريخ العربي والأميركي تنفذ أميركا في الشرق الأوسط عام 2003، نفاذا حقيقيا، وتتوغل سياسياً وعسكرياً وثقافياً ذاك التوغل في العالم العربي، وتصبح حقيقة واقعة في قلب العالم العربي، وفي بلد كالعراق متنوّع الحضارات، ومن أغنى بلدان العالم العربي بالبترول، والماء، والأرض، والعلماء، والفنانين، والشعراء، والموسيقيين، وسائر المبدعين.
ورغم ذلك، لم يصبح العراق دُرّة التاج الأميركي، كما أصبحت الهند في الماضي دُرّة التاج البريطاني، منذ منتصف القرن الثامن عشر، وحتى منتصف القرن العشرين، علماً أن بريطانيا عندما كانت في الهند، كانـت عينها على العراق دائماً، و"شركة الهند الشرقية" هي التي أنشأت مصنعاً لها في البصرة في عام 1643، وأقامت فيها أحد فروعها، وأصبحت البصرة في عام 1763 سوقاً تجارية بريطانية نشطة. وفي السنة التي غزا فيها نابليون مصر 1798، عيّنت بريطانيا مندوباً دائماً لها في البصرة، وفكرت في إقامة خط حديدي بين البصرة وحيفا بعد افتتاح قناة السويس، لمنافسة ألمانيا في حصولها على امتياز خط برلين- بغداد الحديدي.
-2-
في عام 2003، نشر ستانلي كيرتز، الباحث في معهد "هوفر" بجامعة ستانفورد الأميركية المشهورة، ومؤلف كتاب (كل الأمهات واحدة) عن إعادة تكوين الثقافة الهندية، أول دراسة أكاديمية في المجلة السياسية الأميركية المتخصصة Policy" Review"، عما أطلق عليه (الاستعمار الديمقراطي)، وهي الدراسة التي عقدت مقارنة سياسية وتاريخية علمية بين الوجود البريطاني في الهند الذي استمر قرابة مائتي سنة وبين الوجود الأميركي الجديد في العراق، وتساءل ستانلي:
- هل سيصبح العراق دُرّة التاج الأميركي، مثلما كانت الهند دُرّة التاج البريطاني؟
- وهل كانت أفغانستان، هي جرثومة الاستعمار الأميركي الجديد، الذي يتحدث عنه الكتّاب والمعلقون السياسيون في إعلام الشرق الأوسط؟
ولكن السؤال الكبير الذي طرحه ستانلي في دراسته هو:
- هل يمكن لمثل هذه المغامرة للاستعمار "الديمقراطي"، أن تكون منسجمة مع المبادئ التحررية للغرب؟
- وإذا كانت هذه المغامرة منسجمة فعلاً، فهل من المحتمل تطبيق "الديمقراطية"، في مجتمع ذي قيم مختلفة عن قيم المجتمع الغربي؟
ويقول ستانلي إن مثل هذه الأسئلة، قد طُرحت في النظرية والتطبيق، وتمت الإجابة عنها في السابق أثناء احتلال بريطانيا للهند، من قبل مفكرين وفلاسفة أوروبيين، من أمثال ادموند بيرك، وجيمس ميل، وجون ستيورات ميل، الذي خلف والده جيمس كرئيس لشركة الهند الشرقية في لندن. فإذا كانت الإمبراطورية البريطانية في الهند تبدو غير متماثلة مع ما هو واقع في العراق من قبل أميركا ، فما هي أوجه الاختلاف والائتلاف بين الاستعمار البريطاني للهند، وبين الاحتلال الأميركي للعراق؟
-3-
لقد أقام الاحتلال البريطاني في الهند قرابة 200 سنة، وكان خلال هذه السنوات الطويلة مهمِلاً للهند، ومستغلاً لها. وكانت الحكومات الكولونية التي تقيمها بريطانيا في الهند حكومات منحرفة، سببت الكثير من الاضطرابات العنيفة في الهند، وراح فيها ضحايا كثيرون، ونشأ عنها جبهات وطنية تحررية هندية، ظلت تطالب بالاستقلال طيلة سنوات، وبتعاقب أجيال وراء أجيال. في حين أن الإدارة الأميركية، كانت قد أعلنت أنها لن تقيم في العراق مدة طويلة، وأنها ستنسحب من العراق حال استقرار أوضاعه الأمنية، وقد انسحبت فعلاً في عام 2012، وسلمت الحكم لحكومة عراقية، وهو ما لم تعلنه بريطانيا أثناء حكمها تلك السنوات الطويلة للهند. ورغم هذا فقد أصبحت الهند دولة ديمقراطية حقيقية، بعد أن نالت استقلالها الذاتي 1935 وبدأت بريطانيا بالانسحاب منها كليةً، بعد الحرب العالمية الثانية.
أما العراق فحاله الآن، كما ترون، للأسف الشديد.
-4-
ولقد كان للاستعمار البريطاني في الهند مساوئ لا تُعد ولا تُحصى، ولكن كانت هناك محاسن وإيجابيات لهذا الاستعمار، أبرزها ولادة القومية الهندية ونموها، وتأسيس حزب المؤتمر الوطني الهندي عام 1885 بزعامة غاندي، ودخول الهند العصر الحديث، حيث نهضت المدن الهندية في القرن التاسع عشر، وأصبحت مدناً غنية، نتيجة للصناعات التي أنشئت فيها، وربط الهند بشبكة ضخمة من المواصلات، وإنشاء نظام قضائي وإداري حديث على المستوى الإنجليزي، واعتماد اللغة الإنجليزية لغة رسمية في البلاد، مما ساعد الهنود على الاتصال والتواصل بالعالم الغربي.
وبعد نيل الاستقلال وانسحاب بريطانيا من الهند، أصبحت الهند الدولة الديمقراطية الأولى في آسيا كلها، ووضعت دستوراً في 1950 مستوحى من الدستور الأميركي، ومن المؤسسات الدستورية البريطانية، وأصبح نظام الحكم فيها فيدرالياً، على الطريقة الأميركية، ويتألف من 21 ولاية، كما هو الحال الآن، وتم تعيين المسؤولين بالانتخاب، رغم ارتفاع نسبة الأمية في الهند، ورغم تدني مستوى المعيشة والفقر، مما يشير إلى تمسك الهند بالديمقراطية تمسكاً شديداً، لم تستطع معه زعيمة قومية كالراحلة أنديرا غاندي إلغاء الحريات المدنية في محاولتها عام 1975.
-5-
إن أميركا اليوم، ليست هي بريطانيا الأمس، ذات الماضي الاستعماري الطويل في آسيا وأفريقيا، ولا الذهنيات البريطانية السياسية الاستعمارية هي الذهنيات السياسية الأميركية الآن، رغم كل ما يقال عنها في الشرق الأوسط في هذه الأيام، حيث تغيرت موازين القوى، وغابت إمبراطوريات، وظهرت قيم سياسية جديدة بعد الحرب العالمية الثانية، وظهرت إمبراطوريات جديدة.
لقد تغير كل شيء تقريباً.
-6-
إن الذي حال دون أن يصبح العراق دُرة التاج الأميركي – في رأيي - هو أن الالتزام الأميركي بالاستقلال السياسي أصبح مفهوماً أخلاقياً متناقضاً. فالاستعمار مهما كان قاسياً أو وديعاً يعد إهانة وإذلالا، رغم أنه نصف الطريق نحو الديمقراطية والحكم الذاتي. ومن هنا كانت "الليبرالية الاستعمارية"، برأي ستانلي كيرتز، فضيحة أخلاقية وقانونية، كما أنها إنكار وقبول في وقت واحد، حيث لا يمكن قبولها، أو إنكارها.