يمثل برنامج "ياهلا أمريكا" والذي يقدمه الإعلامي المتميز علي العلياني، صدمة للذين حذروا من مخاطر التوسع في الابتعاث على المجتمع السعودي.
فقد حاول البعض من الدعاة ـ للأسف ـ تشويه "الابتعاث الخارجي" بشتى الوسائل حيث يقولون إن الشباب قد وقعوا في براثن المخدرات والانحراف الأخلاقي وهناك من المبتعثين من تنصر وارتد عن دين الإسلام.
يقول أحد الدعاة في التحذير من الابتعاث ما نصه: "تزداد بذلك أعداد المستغربين الذين تتلوث أفكارهم بما يلقى في الغرب من شبهات تفسد أخلاقهم بما هو مبذول عندهم من شهوات، فيرجعون بعقول غير العقول التي ذهبوا بها، وأخلاق غير الأخلاق التي ذهبوا بها، ويزهدون فيما في بلادهم من أخلاق كريمة وفطر مستقيمة وتقيد بالأحكام الشرعية التي أتى بها سيد البرية صلى الله عليه وسلم".
وهذه الرؤية في الحقيقة تمثل وجهة نظر لشريحة لا بأس بها من الدعاة ورجال الدين وأفراد المجتمع، ولكن يا ترى ما هي العقول والأفكار والأخلاق الجديدة التي سوف يأتي بها الشباب من الغرب؟.
سلّط برنامج "يا هلا أمريكا" على بعض من هذه الأفكار وهذه الأخلاق التي اكتسبها الشباب هناك، وهي ليست كما تصورها البعض تتمثل في الانحراف العقدي والأخلاقي كما يدعون ذلك.
فهناك من المبتعثين من يقول إنه عرف معنى احترام الرأي الآخر والمعاملة من غير تمييز، وهناك من عرف معنى التعددية في الثقافة والأديان وعدم التعصب والتسامح بين الناس، وهناك من تعلم الاعتماد على النفس وتحمل المسؤولية ومواجهة الصعوبات مهما كانت.. فهل هذه هي الأخلاق والأفكار التي يخشاها الدعاة والمشايخ؟
دأب كثير من الدعاة ورجال الدين على نقد الثقافة والحضارة الغربية، وإبراز سلبياتها ونقاط ضعفها، وقد اتسم هذا النقد بالشراسة والانفعالية والسعي إلى طمس إيجابيات الغرب والتعتيم على إنجازاتهم بدافع من هاجس الخوف على الهوية والذات والدين.
فمنهم من يرفض الثقافة الغربية جملةً وتفصيلا، وهؤلاء يقاومون كل تغيير أو تجديد وتطوير في المجتمع، وهم بمثابة من يقف أما تيار جارف سيحقهم في يوم من الأيام.
وآخرون منهم يقول: "لنأخذ من الغرب إيجابياته ونترك سلبياته"!، وكأن المسألة انتقائية واختيارية تأتي على هوى النفس، فالحضارة منظومة مترابطة ومتكاملة لا يمكن تجزئتها أو فصلها عن بعض، فعندما استوردنا على سبيل المثال الأنظمة المرورية والصحية فهل نستطع منع الحوادث والأخطاء الطبية منعا باتا؟
قد يقول قائل إن المقصود بذلك أن نأخذ منهم الإنجازات العلمية النافعة ونترك السلبيات مثل السفور والاختلاط.
وأقول: نحن واقعون تحت وطأة الثقافة والحضارة الغربية سواء أردنا ذلك أم كرهنا، وهذا واقع يجب قبوله والاعتراف به، ولا مناص لنا من سلبيات هذه الحضارة، فعندما استخدمنا وسائل الاتصالات الحديثة من هواتف ذكية وإنترنت وبما فيها من إيجابيات نافعة، فهل يمكن منع المعاكسات وحالات الابتزاز وزيارة المواقع الإباحية؟.
نأتي الآن إلى فئة أخرى، أجدها أقل تشددا من سابقيها، فهي تقبل في متابعة الغرب في المعرفة التكنولوجية والعلوم الطبيعية، وترفض التبعية الفكرية له لأن هذا يعتبر في رأيهم: "خيانة ظاهرة للأصالة والمعاصرة، فهو تقليد أعمى لا ينسجم مع طبيعة المجتمعات، إذ إن لكل مجتمع خصائصه ومميزاته وهويته ودينه وعقائده وعاداته وتقاليده"، وعلى هذا الأساس فهم يطالبون بالخصوصية الثقافية ويرفضون بما يسمونه التقليد الأعمى للغرب لإيجاد حلول مستوردة من قبلهم تؤدي إلى تفاقم الإشكالات، فيصبح المجتمع بلا هدف وبلا هوية.
الملاحظ على أصحاب الرأي السابق، أنهم يستخدمون مفردات ومصطلحات ومفاهيم غربية في كتاباتهم ومقولاتهم، مثل أيدلوجيا، الحرية، الرؤية الكونية، فمن طرح هذه المصطلحات في الفضاء الفكري لمجتمعنا؟.
أما فيما يتعلق بالخصوصية الثقافية، فإن متابعة الغرب في المعرفة التكنولوجية والعلوم الطبيعية يعد مقدمة للتفكر، ولا يتحقق هذا التفكير إلا عن طريق تحصيل المناهج العلمية من الغرب، فنحن لا نستطيع أن نبدأ من الصفر، والحضارة الحديثة هي حضارة عالمية ساهم في إنشائها الغرب والشرق معا، وبالتالي لا نستطيع التقدم في المعرفة العلمية دون وجود تبعية فكرية أيضا، وينبغي أن نسلك المنهج الذي سلكه الغربيون في التفكير وخاصة التفكير النقدي الذي يخشاه بعض الدعاة ورجال الدين.
هذا باختصار شديد لمجمل المواقف المعارضة للثقافة والحضارة الغربية، والتي قد تفسر الآراء المعارضة للتوسع في الابتعاث الخارجي، وهناك أيضا أبعاد تاريخية وسياسية ودينية قد تفسر أسباب هذه الاعتراضات وهذه المواقف، منها النظرة السلبية إلى الغرب والتي رأى فيها البعض بأن هذا المجتمع كان بربريا همجيا، بالإضافة إلى الآثار التي تركتها الحروب الصليبية والاستعمار الغربي للدول الإسلامية في الماضي.
هنا ينبغي الالتفات أننا في مواجهة حضارة وثقافة غنية جدا لا نعرف عنها إلا القليل جدا، ويجب الاقتباس منها لمئات السنين، وبرنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث، يهدف في الأساس إلى تزويد أبناء الوطن بشتى أنواع المعارف والعلوم في مختلف التخصصات العلمية التي يحتاج إليها المجتمع في وقتنا الحاضر.
والمخاطر الحقيقية التي تواجه المبتعثين والمبتعثات، تتمثل في مدى تقبل المجتمع لهم ومدى توافر البيئة العملية المناسبة بعد عودتهم، ومدى قدرتهم على تطبيق أفكارهم ونظرياتهم التي تعلموها من الغرب، وكيف نحقق آمالهم وطموحاتهم ويستفيد المجتمع من علومهم وتخصصاتهم؟
على المثقفين والمفكرين من الدعاة ورجال الدين وغيرهم أن يساعدوا الشباب في تحقيق طموحاتهم بدلا من أن يصبحوا حجر عثرة أمامهم، وأمام طريق الإصلاح، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لا تعلموا أبناءكم على عاداتكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم".