لأن مصر هي البوابة العربية والإسلامية الكبرى على العالم الغربي بكل تقاطعاته، ولأن مصر هي مركز الإشعاع الفكري العربي والإسلامي، ولأن مصر هي الخزان البشري الضخم للأمة العربية، فهي في رباط إلى يوم القيامة، كل ذلك مبعث كافٍ لنقلق كعرب على مستقبل "أم الدنيا"، ونتفق أو نختلف على ما يحدث على أرضها من تقلبات في الوقت الراهن، وذلك دليل على إحساسنا بوحدة أصيلة تجمعنا، نتحاور ونحتد من أجل مصر لأننا جزء حقيقي من الجسد الكبير المسمى (الأمة العربية)، ونشعر بأن ما يتشكل في مصر، قطعاً سيؤثر على كل طريقة فهمنا ووعينا لمستقبلنا العربي بكليته، وعلى ضوئه سنعيد رسم خارطة أحلامنا للقادم من الأيام، كعادتها مصر تصنع أهم جزء من التاريخ العربي، وتثبت يوماً بعد آخر أنها المحور الأهم في الضمير والشأن العربيين، لذلك لنا أن نفتح الحوار تلو الآخر، وهو ما يرتقي بوعينا السياسي على وجه الخصوص.
(40) مليوناً تقريباً من المصريين كما - قالت بعض وكالات الأنباء -، خرجوا في (26) يوليو 2013، استجابة لنداء وجهه لهم الجنرال عبدالفتاح السيسي، قبل (48) ساعة فقط من الموعد، ليعلن ذلك المشهد أننا أمام حدث نوعي ومثير بالفعل، يعكس رغبة الشعب المصري القوية للتخلص من التعب السياسي، الذي ترزح تحته مصر منذ مطلع عام 2011. وهذا ما فتح الباب على مصراعيه، لدخول كل المواطنين العرب في حوارات وتجاذبات، تحاول قراءة الأحداث على طريقتها، وفق قناعاتها ورؤيتها الخاصة، متأثرة في أحايين كثيرة بما تعرضه القنوات الفضائية إلى حد بعيد، وتتبنى مواقفها الشخصية انطلاقا من ذلك! وهذا يُفسر اختلافات الرأي المتصادمة حول ما يحدث على الأرض. وعليه فليس مستغرباً أن تذهب بعض تلك الآراء، إلى محاولة تطبيق مبادئ وأخلاقيات لا تعترف بها الأحداث السياسية، كمصطلح (الشرعية) مثلاً، وهو المصطلح الذي توصف به النتائج السياسية في بعض جوانب العملية الديموقراطية. لكن تقرير مصداقيتها يعتمد على تقدير صحة ما قبلها، وما بعدها من التحركات والتطبيقات السياسية، التي تُعنى بالعملية التنفيذية لمقررات الاتفاقيات والنصوص الدستورية.
في مصر لم تكن ما آلت إليه النتائج السياسية سليمة بالقدر الذي يمنحها قوة الاستمرارية، فقد مثل الخلاف العاصف حول صياغة الدستور الذي تقرر أن يكون توافقياً بالدرجة الأولى بين كل الأطراف والنخب السياسية ذات الشأن، كأبرز النقاط المفصلية في الخلاف، لتتوالى الأخطاء تباعاً نتيجة لذلك، ما أدى إلى تصاعد الأحداث ووصولها إلى ما هي عليه الآن، ولتستمر حالة الرفض من الأطراف خارج السلطة، التي وجدت نفسها فجأة في جانب المعارضة (المقموعة)، وظلت ترى أنه قد تم إقصاؤها بشكل ما من صلب العملية الديموقراطية جملة وتفصيلاً، وأن خطط تغييبها عن الحراك السياسي قد بدأ تنفيذها بالفعل. لذلك قررت البدء في لملمة شتاتها وتشكيل قوة مضادة لا يمكن الاستهانة بها، وقد نجحت في ذلك لتجيش الشارع الرافض بالكامل لصالحها، وهو ما جعلها في موقف قوي من غير الممكن تجاهله أو التقليل من شأنه. في المقابل لم تُحسن السلطة تقدير المتغير الجديد على الأرض، وواصلت صلفها ونهجها الإقصائي المعتمد على أسلوب الخطاب الجماهيري المتشنج، الذي كثيراً ما وصف معارضيه في أكثر من مناسبة بالسفهاء والضالين والكافرين! في موقف غريب لا يعكس وعياً حقيقياً بأبسط الأسس السياسية وتقديراتها، ووضح ذلك في عدم مقدرتها على احتواء الفرقاء السياسيين كما يقتضي الأمر، ما أسهم في رفع معدلات تذمر الشارع على اختلافه، لتنفجر الأوضاع راسمة اللوحة الحالية للمشهد المصري السياسي. ولتبدأ بعد ذلك النقاشات العالمية في الاحتدام بين معسكر الرافضين ومعسكر المؤيدين، مدفوعة بالحسابات السياسية الدولية تارة، ومستسلمة لضغط العاطفة تارة أخرى!
الغريب أن كلا الطرفين المتصارعين لم يسعيا إلى إيجاد نقطة تصالحية منذ البدء، وانزلقا إلى محاولات إثبات من هو على صوب ومن هو على خطأ! وعليه فقد انتهت الأمور إلى إحداث صدع عميق جداً، أودى بكل الآمال في إمكانية العودة إلى الوراء ولو قليلاً. وعلى خطاهما سار المتحاورون العرب في نقاشاتهم وجدالاتهم (العاطفية)، التي اختلط عليها الرأي السياسي والموقف الإنساني وتعصبت له بحدة أحياناً، وهو دليل على محدودية رؤيتنا السياسية، وعدم نضجها بالشكل المطلوب، لكننا على الرغم من ذلك نتحاور في الشأن المصري بكثرة، لا لشيء إلا حباً في أرض الكنانة وأهلها، رافضين مبدأ العنف وإراقة الدماء، من أجل الوصول إلى الحل أياً كان نوع الخلاف وطبيعته.