صلة غزة بمصر، هي من صنع التاريخ، وهي في قوة فعلها علاقة شريان بقلب. فغزة هي الجسر الذي عبر فوق ترابها جيش الفتح العربي إلى مصر، على يد القائد العربي عمرو بن العاص، بعد الانتصار على الروم في معركة أجنادين. فقد توجه جيش الفتح برا عبر غزة، مارا بالعريش، وصولا إلى الإسكندرية. ومنذ ذلك التاريخ، بقيت غزة، الرئة التي تتنفس منها مصر، وبوابتها الرئيسية للمشرق العربي، ولقارة آسيا.

ما يدفع للحديث عن علاقة غزة بمصر، هو ما يجري الآن من لغط سياسي، في أرض الكنانة، بعد سقوط حكم الإخوان المسلمين فيها، بعزل الرئيس مرسي عن سدة الرئاسة. لقد اتهم القطاع الأوسع من الشعب المصري، حركة حماس بالتدخل في شؤون مصر، والوقوف إلى جانب الإخوان. بل إن تلك الاتهامات تخطت ما هو مقبول بكثير، فحماس متهمة باقتحام السجون المصرية، إثر انتفاضة 25 يناير عام 2011، وإخراج معتقليها بالقوة، من السجون، ومتهمة أيضا بالمشاركة في إطلاق سراح الرئيس المعزول من السجن عنوة، بما يعني اعتداء صريحا على سيادة الدولة المصرية، وتدخلا في شؤون أمنها القومي والوطني.

اختارت حماس الانحياز لعلاقتها العقدية بالإخوان المسلمين، على حساب مصلحة الشعب الفلسطيني، وعلاقات الأخوة بين الشعبين، في سابقة خطيرة، رغم وعي قادة حماس أن مصر هي بوابة القطاع الوحيدة، التي من خلالها يتحقق اتصال فلسطينيي غزة بالخارج، عن طريق معبر رفح.

إن متابعة نشأة جماعة الإخوان المسلمين، التي تنتمي لها حماس، ستتكفل بتفسير موقف الحركة من الأحداث الأخيرة في مصر. لقد نشأت جماعة الإخوان المسلمين في مدينة الإسماعيلية، قريبا من الجزء الشمالي من شبه جزيرة سيناء. ولم يمض وقت طويل على تأسيسها، حتى تمكنت من استقطاب أعضاء ومؤيدين لها في فلسطين، منذ أوائل الثلاثينات من القرن المنصرم.

كان موقف الجماعة من الانتماء الوطني مرتبكا وضعيفا منذ المراحل الأولى لتأسيسها، فرسالتها كما تؤكد أدبياتها، هي عالمية والوطن ليس موضوعها. ومن هنا فإن أولوياتها السياسية ليست بالضرورة متطابقة مع المطالب الوطنية. وذريعتها في ذلك أنها ليست حركة سياسية بل جماعة تعمل على نشر الدعوة، والتشجيع على الالتزام بالمبادئ العظيمة التي بشرت بها رسالة الإسلام. وكانت ذريعة حق، يراد بها باطل. فالجماعة، بالضد من مقولتها هذه، لم تتردد مطلقا عن المشاركة في الحياة السياسية المصرية منذ نشأتها. وكان خيارها الدائم هو الوقوف ضد التطلعات الوطنية، وإرادة شعب مصر في إنجاز الاستقلال، وبناء الدولة المدنية.

في فلسطين، ظل وجود الجماعة محدودا وغير مؤثر في مواجهة المشروع الصهيوني، بعد الإعلان عن قيام كيانه الغاصب. وحتى بعد نكسة الخامس من يونيو 1967، لم يبرز دور للإسلام السياسي، في المقاومة الفلسطينية، التي برزت بقوة بعد النكسة. فقد تصدرت آنذاك، حركة فتح قيادة المقاومة الفلسطينية، وإليها انتقلت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، التي حظيت بتأييد عربي رسمي وشعبي. ومنذ منتصف السبعينيات، بعد إقرار القادة العرب، لوحدانية تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية للشعب الفلسطيني، توج الرئيس الراحل ياسر عرفات قائدا للثورة الفلسطينية، ولمنظمة التحرير.

وتزامن هذا مع انتقال منظمة التحرير للمقاومة، بمزاوجة النضال الفلسطيني، بين العمل السياسي والعسكري، وصولا إلى حل يضمن قيام دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي التي احتلتها "إسرائيل"، في عدوان يونيو، وتحديدا على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، وتكون عاصمتها مدينة القدس. وفي مواجهة قرار القادة العرب، باعتبار منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، عمل القادة الصهاينة، على إيجاد قيادات وشخصيات، من داخل الضفة الغربية والقطاع، لتكون بديلة عن المنظمة، وبشكل خاص أثناء الانتفاضة الشعبية العارمة بمنتصف السبعينات التي عمت مدن الضفة الغربية، لكن تلك المحاولات وئدت في مهدها وانتهت إلى الفشل.

وكان إعلان جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، عن تأسيس حركة حماس، وإشارة البيان السادس للحركة، في 11 فبراير 1988، عن انتسابها للجذور الإخوانية في فلسطين، وإشارته إلى أن حركة المقاومة الإسلامية تعتبر الساعد القوي لجماعة الإخوان المسلمين، قد فتح الباب لوجود قوة سياسية فلسطينية جديدة تنافس منظمة التحرير في تمثيل الشعب الفلسطيني، وتضعف قدرتها التفاوضية مع العدو من أجل إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وتحت شعار تكتيكي مرحلي، يطرح تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، ويعمل استراتيجيا في الوقت ذاته على إضعاف المقاومة الفلسطينية، وهكذا كان.

تبخرت شعارات حماس، بعد توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، وسارعت للمشاركة في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، التي قامت على أساس تلك الاتفاقية. حصدت معظم الأصوات في القطاع والضفة، باعتبارها وجها مقاوما رافضا للتفريط في حقوق الفلسطينيين، لكن تكتيكاتها تكشفت بسرعة، عندما قادت انقلابا ضد السلطة في رام الله، وتفردت بالهيمنة على القطاع، وبقي الأمر قائما قرابة عقدين من الزمن، من غير تغيير.

وطيلة فترة انقسام القطاع عن المركز في رام الله، عملت السلطات المصرية، أثناء عهد الرئيس مبارك على تقريب وجهات النظر وإنهاء حالة الاحتراب بين المتصارعين الفلسطينيين دون تحقيق تقدم يذكر. وخلال أكثر من عقدين، بقي معبر رفح هو الممر الرئيس للفلسطينيين في القطاع للعبور إلى خارج فلسطين.

ومرت حماس بشهور عسل قصيرة، بعد 25 يناير2011 كشفت فيها عن تفوق انتمائها للإخوان على أي انتماء آخر، بما في ذلك الانتماء لحقوق ونضال الفلسطينيين. اختارت أن تلعب دور العصابات في الهجوم على السجون المصرية، وأن تكون عامل تخريب لأمن مصر، من خلال الارتباط بأعمال الإرهاب التي عمت سيناء في العامين المنصرمين. والخاسر نتيجة هذه الممارسات هو الشعب الفلسطيني المظلوم، وعلاقات الأخوة التاريخية بين الشعبين، ومستقبل النضال الفلسطيني.

دعوة من القلب لأشقائنا المصريين، أن يميزوا بين الدور التخريبي الذي تمارسه بعض أطراف حماس، وبين مصالح الشعبين. فرغم كل تجاوزات حماس التي يشير لها الإعلام المصري، انتصارا لجذورها الإخوانية، فإن غزة تبقى بوابة مصر إلى الشرق، كما هي مصر دائما قلب الأمة ورمز كبريائها وعنفوانها. حمى الله مصر وشعبها وحمى الله أرض فلسطين.