يُعد الدكتور مصطفى محمود، أحد أعلام العصر الحديث تأثيرا وأثرا.. ولد في ظروف لم تكن في كامل الطبيعية، وفي أسرة غريبة، حيث كانت التجربة الثانية في الزواج لأب وأم ولد لهما الطبيب والروائي والموسيقي والكاتب والشاعر المفكر عام 1921 بمحافظة الغربية بمصر، حيث كان والده موظفا كسكرتير المحافظة، وقد وصف الزمان الذي ولد فيه بأنه هادئ بلا ضجيج، غارق في أحلام وخيالات طويلة، وعندما تعرض للضرب في المدرسة كادت تلك الضربات أن توقف تعليم الفتى المتسائل، وكان في "الكُتاب" قبلها قد طلب الفتى من معلم القرآن رأيه في معاناتهم في البيت من بعض الحشرات، فما كان من المعلم إلا أن أعطاه تعاويذ قرآنية وأحجبة وطلب منه أن يضعها في المنزل حيث ستقوم التعاويذ بطرد الحشرات.. فقال إن تصرف المعلم كاد أن يطرد من رأس الفتى الكثير من إيمانه وهو الدارس للقرآن الذي يقف مشدوها عند الجرس القرآني وتأثيره في (والضحى، والليل إذا سجى) (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى).. كما قال عن نفسه: بل إن تصرف المعلم بمحاولاته التي يحسبها عمق إيمان بوضع آيات القرآن كمبيد حشري جعل موقف مصطفى محمود يتعمق لدرجة أنه كوّن فرقة من الأطفال لمناهضة أسلوب إيمان المعلم، وبدأ يفكر في وسائل علمية حقيقية لتكوين مبيد حشري من خلال معمل بدائي جمع له تراكيب كيميائية أوصلته للنتيجة المطلوبة، ليشق به الطريق أكثر نحو المعرفة، ومع بعض تكرار إخفاقاته الدراسية إلا أن أخاه الأكبر - وبعد حصوله على شهادة الثانوية العامة - هيأ له الظروف لأجل أن يدرس بالكلية العسكرية ليتخرج ضابطا، حيث كان دور الضابط في عصر الملكية بمصر أكبر من حقيقته، ولكن مصطفى محمود كان يأمل في دراسة الطب وأبلغ الشخص الذي في المقابلة الشخصية أنه جاء لإرضاء أخيه فقط، فقدم له خدمة بأن أظهره في كشوف المرفوضين ليكون عذره.
واتجه بعدها إلى الطب، وكاد لشدة اهتمامه بالتشريح أن ينام قريبا من المشرحة ليحاول الحصول على جزء من جسد ميت ليأخذه معه للبيت ويجد وقتا أكثر للتشريح والتأمل، وقد حصل أن فعل ووضع رأسا وأجزاء من جسد تحت سرير نومه في مادة كيميائية خطرة سبب شمه لها أن فقد إحدى رئتيه لاحقا، واستمر لنحو من 60 سنة يتنفس جزئيا، ولم يمنعه كل ذلك من عزف الناي والفلاوت كإحدى هواياته، حيث تبناه لفترة الموسيقار محمد عبدالوهاب وبقي معه في المنزل كما فعل أحمد شوقي الذي تبنى عبدالوهاب نفسه في مطلع شبابه، وحتى وهو في كلية الطب لم ينكر مصطفى محمود أن الهواية والحاجة جعلتاه يشترك مع فرقة موسيقية في حفلات مدفوعة الأجر، ولم ينس أن رآه بعض طلبة الكلية ومعارفه فاختلطت بداخله مشاعر الخجل والألم ولم ينسها بعد أن تخرج وكبر، وإضافة إلى اهتمامه بالكتابة والتأليف بقي صاحب الرئة الواحدة أخصائيا للصدر لسنوات طويلة، ليغير من جديد مسار حياته المهنية فقرر عام 1970 أن يترك مهنته الأصلية ودراسته في الطب نهائيا، وكان قد ازداد تركيزه على القراءة في الفلسفة والتراث وغيرها، وكان من أوائل كتبه (القرآن محاولة لفهم عصري) حيث هاج عليه الأزهر فكيف في نظرهم يكتب شخص لم يدرس في الأزهر كتابا دينيا!
وحوكم وتمت تبرئته، وبصدقه الذي لم يتخل عنه قال بأن كونه في نظرهم يساري وماركسي سابق: "لهم بعض الحق في شكوكهم".. وكتب صاحب الشخصية الغنية بما تملك من تنوع في السياسة والفكر فمنع من السفر ومن العمل، وبما أن اتجاه الطريق هو للأمام بالنسبة لشخص لا تنهيه ضربات الطريق وأشواكه أصدر كتبا شهيرة بعده مثل (رحلتي من الشك إلى الإيمان) و(حوار مع صديقي الملحد) وكان قبلها قد كتب عدة روايات ظهرت في السينما والكثير من المسرحيات، ووصل إلى الإعلام التلفزيوني من خلال برنامجه الشهير (العلم والإيمان) وقد وصلت حلقاته إلى 400 حلقة بدأت في التلفزيونات العربية منذ عصر الأبيض والأسود، التي كانت تطرح العلم والمخترعات والمستجدات والكشوف وتفسير الظواهر العلمية، وهو ما أوسع حضوره وامتدت شهرته وفكرته بضرورة أن يكون التدين من خلال العلم وهو صاحب المقولة الشهيرة (لن تكون متدينا إلا بالعلم فالله لا يعبد بالجهل) فكان تدينه معتدلا واعيا علميا مع الكثير من البساطة في الحياة وكان كثير الكتابة مستلقيا ومتمددا وداخل غرفة نومه، يظهر لمشاهده برجل كسول للوهلة الأولى وهو صاحب إنتاج علمي غزير فاق أثره ما تقدمه جامعات ومراكز علمية، وتنبأ بكتب خمسة كان آخرها (سقوط اليسار) وسقطت دولة الشيوعية بعده بعام واحد.
ومن المفارقات في حياته أن تزوج إحدى ملكات جمال مصر في الستينات وولد له منها أبناء، ثم انفصل عنها وعن الزوجة التي بعدها وقضى بقية حياته برئة واحدة وبلا زوجة.
قال إنه في يوم من الأيام وبعد أن كتب وألف أكثر من 70 كتابا سأل نفسه: ما المحصلة التي وصل لها غير الكلام المكتوب مهما كان مفيدا؟ وتضايق وسأل صديقه الموسيقار محمد عبدالوهاب وقال له عن شعوره فقال له: "إزاي أقابل ربنا بشوية كلام"؟ فرد عليه عبدالوهاب بأنه فن وهذه رسالة الفن، فقال له مصطفى محمود ضاحكا: "بيني وبينك يا عُبَد موقفك مش مضمون"!
وبدأ يشرح له أهمية أن يقوم الإنسان بعمل خيري مثل إطعام الجائع ورعاية المحتاجين، والمفيد في الحادثة أن مصطفى محمود قرر أن يتجاوز "شوية الكلام" وأن يقوم إضافة إلى التأليف والكتابة بعمل فعلي وعملي على الأرض لنفع مجتمعه وأمته كعمل خدمي ينفع الناس، فقرر أن يقوم ببناء مستشفى ومراكز طبية ومسجد وتجهيزها، فانهالت التبرعات وتعاون معه الكثير لخدمة الفقراء والمحتاجين وعلاجهم، فوصلت الأرقام إلى عشرات الألوف سنويا ممن قدمت لهم رعاية صحية أو دعم مالي وما زال ما أسسه ينفع الناس كلمة وفعلا.
رحل مصطفى محمود المثقف والمفكر وصاحب الأسئلة الكبرى التي لم يتوقف عنها حتى وفاته بعد أن قام بدور الكلمة والإبداع، وتجاوزها إلى عمل أكثر حقيقة لنفع الناس فأوصل رسائل هامة وكثيرة.