يستقبل الناس، هذه الأيام، شهر الخير والبركات، وقد تهيأت النفوس لتغمرها لياليه بأنوار القرآن وتضيء جوانحها إشراقات تلاوته وتطمئن القلوب بذكر الخالق الرزاق فتشرئب الأرواح إلى الاستزادة من فضله واغتنام مواسم رحماته.. وفي هذه الأيام ولياليها "تلين" قسوة اللهاث خلف مشاغل الدنيا وتثوب الطموحات إلى رشدها فتستكين الجوارح وترتفع الأكف وتتطاول الأعناق وتشخص الأبصار إلى بارئها راجية عفوه، طامعة في فضله، سائلة عطاياه ومتوسلة إليه أن يمن عليها بالرضا الذي لا سخط بعده وبالعفو الذي يمحو السيئات ويتجاوز عن الزلات. وفي ليالي هذا "الموسم" الوضاءة بالخير، الدافقة بالسخاء تسود المجتمع روح التواصل والتفاعل وتبادل المنافع فيقترب الأغنياء من الفقراء، يتفقدون أحوالهم ويتلمسون حاجتهم ويستشعرون واقعهم فنرى سخاء أهل المال بأموالهم وتسابق أيادي الخير إلى حيث يثمر المعروف وتتضاعف المكاسب، فالكل يبادر إلى فعل الخير أو الدلالة عليه أو الإشارة إلى مستحقيه حتى يكون له أجر فاعليه.
وفي كل عام تتكرر الصور ويستعاد النموذج حتى بات هذا الشهر موسماً لأهل الخير يلتقون فيه مع من يستحق المساعدة كما أصبح للأسف "فرصة" للكثيرين الذين يستغلون طيبة الناس ومبادراتهم إلى فعل الخير حتى ينالوا بعض مالا يستحقون.. ولا شك في أن "استثمار" رغبة الناس في المعروف وسعيهم إلى فعل الخير شيء إيجابي يسهم في توفير متطلبات تحسين أوضاع المحتاجين، وهو سمة طيبة في هذا المجتمع لكن بقاء الأعمال الخيرية في إطارها التقليدي لا يتناسب مع تعقيدات العصر ولا يتفق مع "شرط" إنفاق المال في وجهته الصحيحة.. وإذا تجاوزنا الجهود المشكورة التي تبذلها بعض الجمعيات الخيرية فإن "دورة" المال في الأعمال الخيرية تحتاج إلى عمل مؤسسي يقوم على معلومات دقيقة يعتمدها من أراد أن ينفق زكاته أو فائض ماله أو مشاركة أهل الحقوق في ما لديه.
نحن مجتمع إنساني فيه كل ملامح المجتمعات – الغنى والفقر، القوة والضعف، السخاء والبخل، الصدق والكذب، وليس عيباً أو مشيناً أن نعترف بالواقع مهما كانت قسوته ونسعى لعلاج الخطأ وتسديد الخطى.. ولعل "مسألة الفقر" إحدى القضايا التي تلتبس في حياتنا، فنحن، إلى سنوات قريبة، كنا ننكر ونخجل من أن نقول إن لدينا فقراً وقد نؤاخذ من يشير إلى مواطنه، حتى قام خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في خطوة رائدة بزيارة بعض الأحياء الفقيرة في العاصمة الرياض، ونقلت وسائل الإعلام تلك الزيارة التي سجلت فصلاً جديداً في رؤية " الفقر" والنظر إلى الفقراء في بلادنا. وقد أطلقت تلك الخطوة الملكية ألسنة الناس ودفعت بوسائل الإعلام إلى تسليط الضوء على واقع كان يعرفه الكثيرون ويسكت عنه الجميع!.
وإذا كانت القيادة لم ترض أن نظل "نداري" صورة الفقر ونحجبها عن الأنظار ونتجاهل آثارها فإن مؤسسات المجتمع مطالبة بمواجهة الحقائق والعمل على توفير المعلومات الدقيقة الموثقة عن الفقر، وعلى وسائل الرقابة العامة أن ترصد أعمال الجهات المختصة وتعينها على أداء واجباتها بالمزيد من كشف الحقائق. علينا أن نعترف بنقص المعلومات الدقيقة عن الفقر والفقراء، فليست لدينا "خريطة" للفقر تكشف واقعه على المستوى الأفقي (الجغرافي) أو على المستوى الرأسي (فئات الفقراء من حيث: السن – الجنس- الدخل – التعليم - التدريب). وسيكون من المفيد والضروري أن نقوم بدراسات حقيقية واقعية عن الفقر ورصد أسبابه ونقاط تمركزه على المستوى الجغرافي وتوفير الأرقام الدقيقة عن المحتاجين وتصنيف حاجاتهم (قلة المال – ضعف القدرة على الكسب أو انعدامها إما بسبب العاهات العقلية أو الجسدية أو كبر السن – الفقر المؤقت الناجم عن البطالة) هذا التصنيف ومعالجة المعلومات يساعد على توجيه المال إلى الاتجاه الصحيح. والحقيقة التي يجب أن نصارح بها أنفسنا ولا نجامل بها أحدا أننا نعاني من نقص الشفافية في ما يتعلق بالفقر ومساحته ومكونات جذوره ومخاطر استمراره. وهذا يعني، ببساطة، أنه لا يمكن معالجة المسألة و "سل" جذورها من تربة حياتنا في غياب معرفة حجمها وحقيقتها وتفاصيل المتأثرين بها ومدى عمقها وانتشارها. وإذا تمكنت مؤسسات المجتمع المتخصصة أن تقدم خريطة واضحة المعالم للفقر من حيث التوزيع الجغرافي والقطاعي وإيضاح جوانب النقص في حياة الفقراء وترتيب الأولويات حينئذ يستطيع أهل الخير من الأغنياء التحرك على أرضية واضحة المعالم يستطيعون من خلالها توجيه أموالهم إلى حيث تكون الثمرات أكثر والنتائج أقرب إلى التحقيق.. إذا توفرت المعلومات لأهل المال فإن الخطوة التالية هي توفير الأطر والأنظمة القانونية الكفيلة بإطلاق أيدي رجال الأعمال لتبني مشاريع مكافحة الفقر دون "الحساسية" التي يعطل بها بعض المسؤولين مشاريع النفع العام.. إذا توفرت المعلومات ووضعت الأنظمة المرنة يستطيع رأس المال الوطني أن يسهم في مشاريع التعليم والصحة والتدريب والإسكان في مواطن الفقر بدلاً من إنفاق الجهد في الأعمال الإغاثية من تقديم الطعام والكساء وتسديد الإيجارات.. تستطيع الأموال العاملة في الجمعيات الخيرية أن تتلمس حاجات الناس حيث ما كانوا ولا تحبس نشاطها في المدن الكبرى وحواشيها.. وإذا كنا نرى أن هناك تقصيراً من الأجهزة والمؤسسات المسؤولة عن معالجة الفقر ناجماً عن ضعف المعلومات و"تقليل" عدد المحتاجين ظناً أن ذلك يحفظ للمملكة سمعتها، وإذا كنا ننتقد هذا الاتجاه فإن الإنصاف والأمانة تقتضي أن نسجل قصور بعض المؤسسات الوطنية الأهلية في معالجة مسألة الفقر. ويأتي في مقدمة تلك المؤسسات الملامة المقصرة المصارف الوطنية التي تربح المليارات كل عام نتيجة تفاعل المجتمع معها وثقته فيها والكثير من هذه الأرباح هي نتاج ودائع أفراد لا يأخذون عليها فوائد.. وقد كتب عن تقصير المصارف الوطنية في حق مجتمعها الكثير من كتاب الصحف ودارت نقاشات وندوات حوله هذا الأمر. ورغم معرفتنا وتقديرنا بأن المصارف مؤسسات ربحية تدير أموال مساهمين وهي مسؤولة عن رعايتها إلا أن الحقيقة المصاحبة لهذا هي أن هذه المصارف – كغيرها- جزء من هذا المجتمع واستمرارها ناجحة رابحة يرجع، في جزء منه، إلى تحسين مستوى أفراد المجتمع وزيادة دخولهم وهذا يقتضي مساهمتها في تقليص مساحة الفقر وتقليل عدد الفقراء.. وحتى يتعاون المجتمع، بكل أطيافه، على محاربة الفقر فإنه يحتاج إلى معلومات يطمئن إليها وإلى الشفافية والصراحة بأن لدينا فقرا وفقراء.