التحقت بوزارة الإعلام موظفاً في عام 1406، وباشرت عملي في إذاعة الرياض مذيعاً بعد أن حصلت على الشهادة الجامعية في اللغة العربية وآدابها من قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الملك سعود، وخضعت لتدريب زاد على نصف عام في مجموعة من الأقسام ورافقت العديد من الإذاعيين الكبار أصحاب التجارب المتميزة في الإعداد والتقديم، ومن المتمكنين لغوياً؛ وطلبت منهم الإدارة كتابة تقارير كل شهر عن مستواي ومدى قدرتي على ممارسة العمل في البرامج المسجّلة وعلى الهواء.
وكانت الإذاعة تعيش أوج اهتمامها باللغة العربية وتوليها الاهتمام الكبير، ولا تسمح بإذاعة أي برنامج إلا بعد رقابته على يد "المراقب الديني واللغوي"، وكان من أبرز المراقبين: الشيخ محمد الهويش، والشيخ إبراهيم الدباسي، وكانا يملكان ثقافة دينية ولغوية وحساً أدبياً مرهفاً يترتب عليه تدوين العديد من الملحوظات على البرامج، ويطلبان إعادة التسجيل وتلافي الأخطاء في اللغة أو الكسور في قراءة الأبيات الشعرية، وكانا مدرسة لي ولجيلي من المبتدئين وقت ذاك.
على أن دورهما انحسر تدريجياً حينما أقرّت الإذاعة عام 1410 برنامجاً مباشراً بعد انقطاع دام اثني عشر عاماً، وهو برنامج "أهلا بالمستمعين"، ثم توسعت تدريجياً في هذه النوعية من البرامج بعد ذلك، وأخذت مساحة كبيرة من البث اليومي، وبدأ المذيعون في الارتجال والثرثرة والتخفف من اللغة والالتزام بقواعدها، في وقت تقاعد فيه بعض المسؤولين الذين كانوا يولون اللغة ما تستحق وحل محلهم بعض من الإذاعيين الإداريين غير المتخصصين ممن لا تتمعّر وجوههم عندما يتخبط المذيعون والمذيعات في اللغة، والله المستعان!
أعود إلى مسألة التدريب التي مررت بها، ومدتها ستة أشهر، فمع أنني عينت على وظيفة "مذيع"، فلم أكن في نظرهم قادراً على ممارسة العمل؛ لأن تأهيلي يقتصر على اللغة العربية وآدابها، ولم أتدرب عملياً في الأستديوهات، وليس لدي معرفة بالإعلام بوصفة علماً وحرفة.
بدأت التدريب مطلع عام 1407، ورافقت مذيعاً له خبرة تزيد على خمس عشرة سنة، وأصبحت ملازماً له في دوامه أحضر معه في الأستديو لقراءة نشرات الأخبار، وتسجيل البرامج في الإذاعة وفي خارجها مع الضيوف، والأهم من كل ذلك قيامه باختيار مجموعة من النصوص وتسجيلها بصوتي ثم سماعها برويّة والتعليق على كل خطأ في اللغة أو الإلقاء أو المعلومات، وهو ما نسميه "تجارب صوتية".
كيف لي الآن وقد مرت ثمان وعشرون سنة أن أستعيد هذه التجربة التطبيقيّة مع اللغة؟
لقد كنت أشبه ما يكون في معمل وأمامي كتلة مصنعة من قواعد اللغة العربية ويطلب مني في كل تجربة صوتية أن أفكك هذه الكتلة قطعة قطعة، ثم أعيدها مكانها مرة أخرى بإشراف مدربي. بدأت أستعيد وأسترجع كل ما درسته في كلية الآداب من قواعد اللغة العربية بشكل تطبيقي، لا نظري، يرسخ في الذاكرة بشكل قوي يصعب نسيانه، وبدأت أذناي تكتسبان تدريجياً ما كنا نسميه "الحس الإذاعي" بحيث أصبحتا تنفران من الخطأ، وتدركان بسرعة الخطأ في المواضع الدقيقة صوتياً من مثل الممنوع من الصرف، وهمزتي الوصل والقطع.
ولم يقتصر التدريب على هذا الأمر، وإن كان هو الأهم؛ لأنه يؤهلني لتقديم البرامج والنشرات الإخبارية، وإنما تعداه إلى التدريب في الأقسام المختلفة في الإذاعة؛ رغبة من المسؤولين في أن أتعرف على أسرار العمل الإذاعي بكل تفاصيله، وأن أعرف الصلة التي تربط هذا القسم بذاك، والمهام التي تقوم بها الأقسام والإدارات في إنتاج البرامج ورقابتها وإدراجها في الهيكل البرامجي، وسوى ذلك من أمور، فتدربت في إدارة الأخبار، وفي قسم الإعداد، وفي قسم الإخراج، وفي قسم التنسيق، ثم عدت إلى قسم المذيعين (مقر وظيفتي) ومارست بعض الأعمال الإدارية فيه إلى أن أوصى المدربون بظهور صوتي على الهواء وتسجيل البرامج بشكل تدريجي.
ومن المؤسف أن مناهجنا في كلية الآداب في ذلك الوقت كانت تخلو من مقرر القراءة، ومن مقرر التحرير الذي كان ملزماً لجميع الطلاب في الجامعة باستثناء طلاب قسم اللغة العربية.
ومن هنا فقد كان تأهيلنا لا يفي بمتطلبات وسائل الإعلام، مع أنهم في ذلك الوقت يفضلون في التعيين على وظيفة مذيع خريجي اللغة العربية على خريجي الإعلام الذين كان معظمهم يفشل في التجربة الصوتية ويعيّن على وظائف أخرى مثل: محرر، ومعد، ومخرج، ومنسق.