"ضربة الحليف موجعة"، هذه واحدة من دروس التاريخ، وأقصد أنه في ظل تصاعد الأوضاع في مصر بعد المظاهرات الحاشدة المناهضة والمؤيدة للإخوان المسلمين، والتي تتواصل بطريقة مأساوية يروح ضحيتها مئات القتلى والجرحى، فإن واشنطن لم تر في عزل محمد مرسي انقلابا عسكريا، حفاظا على شعرة معاوية مع الجيش المصري الذي يحصل على مساعدات تقدر بـ1.5 مليار دولار، يمكن أن تقطع وفقا للقانون الأميركي.

لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن التاريخ سيكشف بالوثائق أن وزير الدفاع المصري الفريق أول السيسي أفسد مخططا أميركيا تناولناه مرارا، وهو إعادة رسم خرائط المنطقة على أسس طائفية وعرقية، وذلك بالطبع بعد حروب أهلية تشتعل في معظم دول الإقليم، وأخطرها في مصر.

ولم يزل الجناح المتطرف بجماعة الإخوان المسلمين الذي ظل يدير دفة الحكم طيلة العام الماضي، يرفض الاعتراف بالواقع الجديد الذي بدأ بعزل مرسي، وضياع فرصة تاريخية ربما لن تتكرر في المستقبل المنظور، وما زال يتعمد تصعيد المواجهة مع السلطات، والتعويل على الاتفاقيات السرية التي أبرمتها الجماعة مع واشنطن من 2005، وتضمن دعمها للحكم، مقابل حزمة شروط، يتصدرها الحفاظ على أمن إسرائيل.

وحينما وصل مرسي للحكم أُبرم اتفاق برعاية أميركية مع السيسي، ظن معها الإخوان أن الأمر استتب، لهذا دارت ماكينة "أخونة الدولة" على نحو متسارع ورفضوا عدة نصائح بضرورة تحقيق الوفاق الوطني، سواء من تركيا وراشد الغنوشي زعيم حزب النهضة التونسي، الذي زار القاهرة قبيل عزل مرسي بأيام في زيارة سرية.

الجديد في الأمر كشفته "نيويورك تايمز" التي قالت إن أوباما استدعى كبير مستشاري مرسي للبيت الأبيض وحمله رسالة عاجلة لمرسي تدعوه لتشكيل حكومة جديدة برئاسة البرادعي، لكنه رفَض بعد إجماع "مكتب الإرشاد"، الذي كان وما زال يدير شؤون الجماعة حتى بعد عزل مرسي.

ثمة معلومات سربت من مصدر عسكري، مفادها أن الرئيس المعزول كان مقتنعا ولآخر لحظة بأن السيسي لن يقدم على خطوته الحاسمة، ربما لأنه كان يظن أن واشنطن لن تسمح للجيش بذلك، وهذا ما حدث بالفعل، لكن السيسي فعلها، وألقى بتحذيرات واشنطن في سلة المهملات، ليكتب بذلك نهاية للمشروع الأميركي المذكور.

وما زال الإخوان يصرون على التصعيد، فكانت مجازر الحرس الجمهوري ورابعة والإسكندرية وغيرها مجرد "بروفات" لما يمكن أن يحدث إذا قررت الجماعة المضي قدما في المواجهة الدموية، وواصل قادتها الدفع بعناصرها إلى "الطريق القطبي" القائم على العنف هو الخيار الوحيد المتاح للعودة لسدة الحكم.

لكن "خيار العنف" محسوم مقدما، فلن تهزم "جماعة" جيشا نظاميا، وجهازا أمنيا ضخما وستخسر الجماعة أيضا دعم العديد من قواعدها وأنصارها، فضلا عما تبقى من دعم أميركي، وهو ما سيجردها من كافة الأوراق المحلية والدولية التي ساهمت في وصولها للسلطة.

السؤال الملح الآن هو عن مستقبل تيار الإسلام السياسي، فهناك من يرى أنه انتهى بسقوط الجماعة، بينما يرى آخرون أن هذا التيار يحظى بشعبية لا يُستهان بها، وأنه يستطيع العودة، شريطة إجراء مراجعات لأخطاء الماضي والانخراط بالعملية السياسية وفق قواعد جديدة.

وبتقديري فإن مستقبل التيار الإسلامي بمصر يتوقف على مدى رغبتهم في التصالح مع المشهد الجديد، خاصة أن فشل الإخوان وضع كل قوى الإسلام السياسي في مأزق، وباتوا أمام خيار وجودي: فإما مراجعة الأفكار وتعديل المسار بعيدا عن سياسيات التغول والاستقواء بالمنبر والشارع، وتجاهل طبيعة المصريين الوسطية متعددة الثقافات والمشارب.

أما على الصعيد الدولي فهناك انحسار واضح للنفوذ الأميركي يتجلى في مواقف واشنطن المرتبكة حيال الأزمة المصرية، فرغم انتقاد الجيش لم تقطع صلتها به خشية تكرار تجربة عبدالناصر، واكتفت بدعوة الإخوان والجيش للتّفاهم، وكان من نتائج هذا التخبط الأميركي أن كافة القوى المتصارعة في مصر راحت تتبادل الاتهامات بالتواطؤ مع واشنطن التي تبدو في أكثر حالاتها هشاشة وضعفا، وازدادت صورتها بشاعة ليس في مصر فحسب، بل في المنطقة برمتها.