في الإصدار الثالث للشاعرة هدى ياسر "كأي شيء يطير عاليا" الصّادر عن دار "طوى" هذا العام "2013" الذي يتميّز بنبرةٍ خاصّةٍ من "الجرأةِ والجمال" تستوقف القارئ مجموعة من النصوص المشغولة ببساطةٍ وتلقائيّة، وفيها جرعة عالية ترتفع عن السائد المحكوم بالقواعد والمعايير التي تحاذر من الخروج الفني، وقبل ذلك الخروج المجتمعي عن الإطار العام الذي يغيّب الجسدَ وأشواقَهُ ونزغَهُ وممارسةَ غوايته في التخطي وعبور الحواجز والأسلاك الشائكة. بحريّة وجسارة واختلاف تكتب هدى ياسر نصَّها، وتذهب مع المغامرة إلى موجتِها الأعلى في التمرد الذي اختبرتْهُ الكتابة المحليّة في مجال السرد إلا أنه في مجال الكتابة الشعريّة يخفّف الوطءَ ويحاذر كلَّ الحذر.

اخترتُ من الكتاب نصّاً قد لا يعبّر عن المحمول المضموني وبذرتِهِ التي تنتفخُ نصّا بعد نصّ على مدار "كأي شيءٍ يطير عالياً" لكنه في رأيي علامة على محمول جماليٍّ لا تخطئُهُ عين القارئ:

وحيدةٌ في المنتصف/ عيونٌ كُثْر لا تنتبه لها

أقدامٌ تصطدم بـ جوارحها

ولا يعتذرُ أحد.

مِن بعيدٍ تلمحُ أيدٍ تتشابك وأخرى ترسلُ إشاراتِ اللذة

وهي وحيدة/ رمادية

تمرّر على وحدتها المناديل، مع ذلك

لا يلتفتُ أحد.

تلكَ الطاولة،

بغبطةٍ تنظرُ إلى طاولاتِ المقهى

وتتمنّى لو تغيّر مكانها.

يأتي النص في ثلاث لقطاتٍ مشحونة بالضوء الكاشف لظلام الوحدة وما يعتمل في جنباتها في مشهدٍ تمثيليّ يشتغلُ بمثابة مجاز؛ مجلَى ينصهرُ فيه الوجودُ الكامن عبر موضعته وتحديده في إطارٍ مفارق ضاجٍّ بالحركةِ الداخليّة والخارجيّة تسبرُها عينُ الكاميرا تتنقّل وترصد. تقترب في نعومةٍ وتقرّب الخشونةَ التي تخدشُ وتُؤْلِم.

يطفرُ سهمُ الوحدة يثقُبُ منذ الحركة الأولى فيه. "الوحيدةُ" في قلب المشهد والضوءُ يكتنفها لا لتبرزَ وتتصدّر، ولكن لإشهار عزلتِها وانقطاعِها عمّا حولها إجباريّا. تمثُلُ حضوراً؛ حضورَ الكسر الذي لا يكتمل رقما؛ اللامرئيّ في احتدام الضجيج رغم المكان المشغول بعناية "في المنتصف"، ورغم الحشد الزاخر تندلعُ منه النظرات وشغبُ الأعضاء الطافحة بالحياة. "الوحيدة" محجوبةٌ في النأي والصمت والإهمال واللامبالاة فتعبرُها العيون وتركلُها أقدامُ الغياب دون نبرةٍ اعتذارٍ تشير إلى وجودها وسطَ المجرى السيّال المصطخب بالهدير والتلاقي الحي.

العيونُ التي لا تنتبه والأجسادُ التي لا ترسلُ اعتذارا يحصرُها الضوء في مرمى "الوحيدة" حيث تشتبكُ العينُ وتتعالق وتستمر في رصد المشهد ينوس بين الخارج مركز الفعل وبين الداخل مركز الانفعال ودرجة التأثير. الوحيدةُ مكسوّةٌ بفراء العزلة الرمادي الذي إنْ بانَ عن لونٍ إلا أنه لون الحياد الذي لم تضربْهُ بعدُ الحياةُ بدفقٍ؛ يغسلُهُ يتخلّلُهُ؛ ينفضُهُ بالرعشة التي تخامرُ الجزء الآخر؛ الجزء الخارجي حين توغِلُ الأعضاء في إشاراتها السافرة أو المتواطئة تعلنُ اشتباكها في حقلِ المتعةِ والتواصل، في الوقت الذي تتقصّى فيه "الوحيدة" بدنَها مقشوراً من اللمسة ومحسوراً من احتكاك النظر. لا شيء سوى مناديل الحسرة والحرج وحركتها العبثيّة تنبئ عن انغراس أظفار الوحدة في الجلد دون بادرةِ إنقاذٍ في حدِّ أدنى من الاعتبار، ربما يلخّصه "التفاتٌ" يشير إلى ذاتٍ ووجودٍ قصَمَهُ الإهمال. الإشارةُ المشتهاةُ ملغاةٌ ومنسيّة لأنَ "الوحيدة" لا أحد يراها. تظلُّ بثغرتِها؛ بنقصها؛ بانحسارها من جلبةِ المشهد.

السياقُ الذي انبنى عليه المشهد في لقطتِهِ الأولى والثانية، يحدثُ له تصعيدٌ وانحرافٌ في بؤرةِ التركيز. يتّجه الضوءُ إلى ذلك الوجود المُغفَل المعزول الذي لم يكن إلا طاولةٍ في مقهى. الشيءُ الجامد المُصمَت جرتْ أنسنته، وحلَّ في جسدِ المطابقة ليعبّر عن ذاتٍ إنسانيّة مُفْردَة تذهبُ إلى المقهى لتلتقي بأشباهها وتحاول أن تقيم جسرا من التواصل والانغماس؛ انصهاراً واندماجاً في الفضاء الإنساني الذي يمثّل المقهى المجالَ الأرحب والفرجةَ السانحة والفرصةَ المواتية للانفتاح وقضم خيوط الوحدة، عبرَ الانوجاد في فضاءٍ من الحميميّة؛ حملتْهُ "طاولةٌ" في مقهى.

* كاتب سعودي