بداية، أعترف بأنني كتبت هذا المقال في عدة دقائق، وذلك لسبب واحد فقط، وهو أنني كتبته في ذهني كثيراً، خاصة كلما عدت من زيارة سريعة لدبي، هذه المدينة التي حيرت ـ ومازالت ـ العالم.

دبي أو "دانة الدنيا" كما هي فعلاً، هذه المدينة الفريدة التي تهوى تحطيم الأرقام القياسية العالمية الحقيقية في كل شيء تقريباً، في الصناعة والاقتصاد والسياحة والإعمار والتقنية والفن والموسيقى والإعلام، وباقي المجالات والقطاعات من المنظومة الماسية للإنجاز والإبداع والتفوق.

لست بصدد كيل المديح والثناء لهذه المدينة الاستثنائية، وإن كانت تستحق ذلك وأكثر، ولكنني فقط أحاول من خلال بعض الانطباعات والملاحظات والمشاهدات التي حُفرت في ذاكرتي كلما زرت هذه المدينة التي لا تعرف التثاؤب مطلقاً، أحاول من خلال ذلك أن أقدم نموذجاً حقيقياً وواقعياً وقريباً لمن يهمه الأمر لقوة الإرادة وتحمل المسؤولية والتطلع غير المحدود وعشق التحدي والرغبة الجامحة بتحقيق الأحلام المستحيلة على مسرح الواقع والحقيقة.

قبل أربعة عقود تقريباً كانت هذه البقعة المهملة من الشرق لا تكاد تُعرف أو تلفت الانتباه، ولكنها الآن نجمة لامعة في سماء العالم بأسره، وهي الآن محطة عالمية ومهمة على الخارطة الكونية، سواء من الناحية الاقتصادية أو السياحية أو الفنية أو الرياضية، وغيرها من المجالات الأخرى. ولكن كيف حدث كل هذا في هذه الفترة الزمنية البسيطة؟ سؤال كبير جداً، تجد الإجابة عليه بمجرد أن تطأ قدماك صالة ـ بل صالات ـ المطار المزدحم دائماً بالقادمين والمغادرين من أنحاء العالم ومن كل الجنسيات والألوان والأطياف، والنداءات لإقلاع وهبوط الطائرات القادمة والمغادرة من كل العالم تكاد لا تهدأ أبداً، عالم بأسره داخل ذلك المطار العجيب، الحقائب تكاد تملأ الممرات، تماماً كما هي الابتسامات وعبارات الترحيب التي يوزعها العاملون في كل مكان من هذا المطار الرائع.

لا أحد هنا يتحدث عن الرطوبة الشديدة، أو الحرارة المرتفعة التي تصل لـ45 درجة، ولكن الكل يحلو له الحديث عن تلك البنايات المرتفعة التي تصل إلى السحاب، وتلك الفنادق الفخمة التي لا مثيل لها في العالم، وعن المجمعات التجارية العالمية التي يقصدها الزائرون من كل العالم، وعن المترو الذي يُعتبر الأحدث والأفضل عالمياً، والمدن المائية المنتشرة في دبي والتي تُنسيك الأجواء الحارة والرطبة، ومدن "الثلج" وحدائق الأسماك والحيوانات التي تنتشر في المجمعات ومراكز التسوق والحفلات الغنائية وقرية مدهش للأطفال والكثير الكثير من الأنشطة والفعاليات الحقيقية التي تعج بها هذه المدينة التي لا تعرف النوم أو الراحة أو التوقف. الكل هنا يسأل عن الجديد، لأنهم يتوقعون دائماً الجديد والغريب في هذه المدينة الشابة والمتجددة. تسألني ابنتي زهراء (10 سنوات) عن سر النظافة والنظام في ذلك المجمع التجاري الذي يعتبر الأكبر على مستوى العالم والذي يحتضن الآلاف يومياً. لم أجد إجابة شافية لهذه الصبية التي سبق لها وأن سألتني عكس هذا السؤال تماماً عن عدم النظافة والنظام في أحد المجمعات السعودية المشهورة. والذي لا يزيد رواده عن بضع مئات يومياً. فقط أشرت بإصبعي للكاميرات الكثيرة والموزعة في كل أرجاء المجمع، إضافة إلى عبارات التحذير المنتشرة في كل مكان والتي حُددت فيها العقوبات المالية المرتفعة لكل من يُخالف النظام والسلوك العام والنظافة، لهذا لا تجد أحداً يرمي شيئاً أو يُبصق على الأرض أو يعبث في شيء. كل شيء هنا في غاية النظافة والترتيب، الحمامات والمطاعم والمقاهي والشوارع، كل شيء تقريباً. إنها ليست مدينة فاضلة، ولا أهلها أو زوارها كذلك، لا أحد هنا يقول ذلك، ولكن الكل يعرف هنا بأن لا أحد فوق القانون، ولن يأمن العقوبة من أساء التصرف والأدب. أما سيارات الأجرة "التاكسي" فجانب مضيء آخر لهذه المدينة الساحرة، فهي حديثة ونظيفة ومكيفة وتعمل بالعداد ويقودها سائقون على درجة عالية من المهارة والمعرفة بالشوارع والفنادق ومراكز التسوق.

هنا لا تشعر بالملل أو الروتين أو الكآبة، فأمامك كل الخيارات لتتمتع أنت وأسرتك بدون منغصات أو مشاكل، والحال كذلك للآخرين، فهنا لا مكان للفصل بين العزاب والعائلات كما هو الحال في مجمعاتنا وحدائقنا، وأحياناً في عقولنا وقلوبنا، هنا لا وجود لكل ذلك العزل، ومع ذلك تسير الأمور بشكل اعتيادي وطبيعي.

ماذا تُريد؟ سؤال تجد الإجابة عليه دائماً في دبي. جولة بحرية أو تحليق بالمنطاد أو الهيلوكوبتر أو رحلة صحراوية أو بالباص السياحي الذي يطوف بك كل دبي أو الصعود لقمة برج دبي لرؤية دبي من علو شاهق يصل لـ828 متراً أو الاستمتاع بمشاهدة النافورة الراقصة التي لا نظير لها في العالم، أو الكثير الكثير من الأشياء الجميلة التي تستحق المشاهدة والزيارة.

تلك دبي، ولكن ماذا عنا! سألتُ أحد السعوديين الذين التقيت بهم في دبي عن سر اختياره لدبي، لم يجبني ولكنه اكتفى بسؤال ابنته الصغيرة نوف (6 سنوات): تحبين أن تصيفي في السعودية أو دبي؟ أجابت على الفور: دبي.

إنني أقدر الجهد الكبير الذي تبذله الهيئة العامة للسياحة والآثار بقيادة سمو الأمير الإنسان سلطان بن سلمان، وأعلم العقبات الكثيرة التي تواجهها الهيئة في خلق بيئة سياحية وإشاعة ثقافة تتناسب ومكانة المملكة العربية السعودية، إلا أن من الواجب أن نتنبه إلى أن كثيرا من تلك العقبات والممانعات هي في أساسها لا تعي المفهوم الحقيقي للتنمية، ومن ضمنه التنمية السياحية، ويبقى الفرد هو صاحب قراره في وجهته السياحية سواء كانت داخلية أو خارجية وفق ما يوفر له من خدمات ومحفزات.