فيما يسود اعتقاد بأن التسرب الوظيفي مسألة سلبية ينعكس ضررها على المؤسسة، جاء خبراء في الشؤون الوظيفية ليصفوا هذه الظاهرة بأنها "آفة نافعة" نظرا لما توفره من تبادل خبرات ورفع لمستويات الأجور، إضافة إلى أن تقييد تنقل الموظفين بين القطاعين العام والخاص يقلل من فرص الإبداع الوظيفي.

ويقول أخصائي التوظيف صالح الجوير إن لتسرب الموظفين من القطاع الخاص أسبابا عدة أبرزها ضعف الرواتب مقارنة بحجم العمل ونوعه إضافة إلى نوعية الإدارة في المنشآت الخاصة وغياب الانظمة التي تحدد طبيعة العلاقة بين الموظف وصاحب السلطة أي المالك أو رئيس مجلس الإدارة والمدير المباشر، مشيرا إلى أن هذا الأمر يتضح في المنشآت الصغيرة والمتوسطة.


أمان مفقود

ويؤكد الجوير أن مستوى الأمان الوظيفي في القطاع الخاص متدن جدا بسبب المخاوف من الملاءة المالية للشركة أو للمؤسسة في المستقبل وسيطرة القرار الفردي خصوصا للشركات العائلية، كما لمستوى العلاقات الاجتماعية بين الموظف والمدير دور بارز في طبيعة العمل ومستوى الراتب إضافة إلى غياب السلم الوظيفي والتدرج العملي.

ويتابع: إن ساعات العمل وإجازة اليوم الواحد ترفعان من معدلات ضعف الإنتاجية والرغبة في الاستمرار من موظف القطاع الخاص في الشركة التي يعمل فيها، موضحا أن القطاع الخاص يعتبر التسرب آفة لكن المختصين يعتبرونها "آفة نافعة".

ويرى الجوير أن فتح سوق التوظيف بين القطاعين العام والخاص وتبادل الخبرات، سيصب في مصلحتيهما إذ سيستفيد القطاع الخاص من نظام الخدمة المدنية والوزارت والهيئة الحكومية، فيما يستفيد القطاع العام من ديناميكية العمل ومستوى الجودة، معتبرا أن السماح بالتنقل بنظام الإعارة سيرفع من معدلات الأجور خصوصا للكفاءات المتميزة، وسيسهم في اهتمام الموظف بتطوير ذاته بالتدريب.


فوق المليون

ويوضح الجوير أن الاحصاءات الرسمية تفيد بأن عدد موظفي الدولة تجاوز حاجز المليون، بينهم 350 ألف سيدة يعملن في القطاع العام والنسبة الأكبر منهن يعملن في قطاع التعليم والصحة، فيما بلغ عدد العاملين في القطاع الخاص نحو 7 ملايين يشكل السعوديون منهم أقل من 650 ألفا.

ويفيد بأن عدد الكفاءات الوطنية من حاملي مؤهلات الماجستير والدكتوراه بلغ نحو 28.5 ألفا، معتبرا أن نسبتهم تعد ضئيلة جدا مقارنة بأعداد الموظفين والموظفات عامة مما يتطلب رفع مستوى التحصيل العلمي والتقني لمستويات أعلى لتطوير القطاعات الحكومية.

وفي ما يخص الأعمال الفنية فإن البيانات الرسمية تكشف على سبيل المثال، أن عدد المهندسين العاملين في قطاعات الدولة حوالي 5.6 آلاف مهندس فقط، مما سيؤدي لتراخي إنجاز المشاريع وعدم جودتها مطالبا بالتوسع في توظيف المهندسين لضبط الحركة الإنشائية والمعمارية.

ويضيف أن التقارير الصادرة من وزارة العمل تشير إلى أن متوسط رواتب السعوديين في القطاع الخاص حوالي 3 آلاف ريال، فيما يشكف تحليل بيانات وزارة العمل عن خلل كبير في أسواق العمل السعودية إذ يبلغ إجمالي رواتب الأجانب نحو 83 مليار ريال مقابل أقل من 30 مليارا للسعوديين، مع مراعاة فارق أعداد الموظفين في القطاع الخاص الذي يميل للأجانب.





الهرم المخروطي

وشدد الجوير أن تحليل الإحصاءات الرسمية والتقارير الوزارية يكشف أن الإشكالات مركبة تماما وذات تراكمات تاريخية.

ويرى أن التعامل مع التوظيف سواء بين القطاع الخاص أو العام لا بد من أن يتم بمفهوم الهرم المخروطي أي أن يكون استقدام العمالة في المهن المتدنية في قاعدة الهرم والمهن في رأس الهرم من الخبراء والمبدعين وذوي التخصصات النادرة أو الدقيقة فيما يقتصر توظيف ما بين القاعدة والرأس على السعوديين للحصول على وظائف مناسبة ومستقرة وذات مداخيل مالية مناسبة، مشيرا إلى الهرم المخروطي يؤثر في قرارات التسرب إذ يتسرب موظفو الدولة إلى القطاع الخاص لارتفاع مستوى المداخيل وبدل السكن والتأمين الطبي العالي توجها إلى رأس الهرم في القطاع الخاص، فيما يتسرب الموظفون من القطاع الخاص ضمن قاعدة الهرم نحو الوظائف الحكومية لارتفاع الرواتب مقابل مداخيلهم السابقة وللشعور بالأمان الوظيفي والاستقرار".


ميزة تنافسية

بدورها تقول مستشارة الموارد البشرية لعدة شركات فتحية العبدالله إن قضية تسرب الموظفين من القطاع الخاص إلى العام أو العكس، لا تعد سلبية بل ميزة تنافسية ثرية للجهات أو للموظف، مشيرة إلى أن الموظف الحكومي يبحث عن الراتب الأعلى والتأمين الصحي وبدل السكن مقابل ارتفاع ساعات العمل فيما يبحث موظف القطاع الخاص للانتقال من الشركات الصغيرة والمتوسطة للوظائف الحكومية بسبب المخاوف من ديمومية الشركة أو المؤسسة ولضعف الراتب وطول ساعات العمل أو كثرة الأعباء العملية.

وأفادت العبدالله بأن الطقاع الخاص السعودي يمكن تقسيم وظائفه إلى فئتين: الأولى يحرص أغلب طالبي العمل الانتماء إليها، كشركات النفط والغاز والكهرباء والتحلية والمشاريع الصناعية والمصارف والشركات البتروكيماوية والتعدينية أو الشركات العائلية المدرجة في سوق الأسهم والتي تستحوذ صناديق الدولة على حصص من أسهمها. أما الثانية فتتجنب العمل في مؤسسات وشركات المقاولات الفردية أو العائلية أو ذات النمو الضعيف أو التي لا تملك حصصا واستثمارات دائمة، كما أن الشركات المتوسطة والصغيرة غير مرغوبة لعموم الموظفين لأسباب إدراية تتعلق بالإداري المسؤول لتأثير العلاقات الشخصية سواء بالإيجاب أو السلب بين الموظف ومديره لغياب النظام المؤسساتي".


مستويات التأهيل

وقالت العبدالله إن مستويات التأهيل التي تطلبها الشركات لتوظيف السعوديين غير دقيقة لاعتبارات أهمها أن القطاع الخاص يضم 950 ألف موظف أجنبي لا يجيدون القراءة والكتابة، مشيرة إلى أن المشكلة تبرز أكثر أمام السيدات حيث لا يستحوذ القطاع الخاص إلا على 55 ألف موظفة مقابل 699 ألف موظف مما يعني عوائق أكبر وأكثر للسيدات من الرجال.

وشددت العبدالله على أن خطط التوظيف الأخيرة حلت جزءا من المشكلة للرجال، فيما بقيت السيدات بأرقام بطالة عالية جدا، مطالبة بوظائف مناسبة لقدرات المرأة وساعات عمل محددة ومهام واضحة مراعاة لدورها الأسري في مناخ نسائي بحت مثل مستشفيات النساء والولادة وأقسام العيادات النسائية والاستقبال والسكرتارية، إضافة إلى التوسع في توظيف المعلمات وتخفيض سن التقاعد مع منح المتقاعدة حوافز حقيقية وفتح المجال بصورة أكبر داخل الأحياء لرياض الأطفال والحضانات وأعمال المطاعم العائلية والمقاهي والصالونات النسائية والتوظيف عن بعد.


تحقيق المواءمة

وأضافت العبدالله أن جهود وزارة العمل للقضاء على ظاهرة التسرب الوظيفي المتفشية في القطاع الخاص بدأت تظهر بعد "حماية الأجور" وعبر برنامج "لقاءات" الذي أطلقته أخيرا مما سيسهم في تحقيق المواءمة بين أصحاب العمل وطالبيه في حال نجاح تطبيقه في جميع مناطق المملكة.

وقالت إن "المميزات الاجتماعية والاقتصادية لدعم التوظيف إحدى ركائز برنامج "لقاءات" وآلية تطبيقه والخطة الزمنية لمعارض التوظيف التي ستقام في الرياض وجدة والدمام"، مشيرة إلى أن "البرنامج الجديد الذي أطلقته وزارة العمل بهدف تحقيق المواءمة بين طالب العمل والعارضين يعد من أهم البرامج التي ستسهم في دفع عجلة توطين وإحلال العمالة الوطنية، بالتعاون مع صندوق تنمية الموارد البشرية ومختلف الجهات المهتمة بقضايا التوظيف بهدف تقديم حلول عملية لتلبية احتياجات القطاع الخاص في جدة".


عرض وطلب

ولفتت العبدالله إلى أن قاعدة البيانات لبرنامجي "نطاقات" و"حافز" اللذين يمثلان العرض والطلب في سوق العمل، أظهرت أن 50% من المنشآت السعودية في النطاق الأحمر، وأن عدد الباحثين عن عمل يتجاوز مليون شاب وفتاة، في حين تؤكد الإحصاءات أن فاتورة البطالة السنوية تتجاوز 5,5 مليارات ريال. واعتبرت أن برنامج "لقاءات" من مبادرات وزارة العمل المشتركة مع صندوق تنمية الموارد وهو الرابط بين صاحب العمل وطالب العمل، وتسعى وزارة العمل من خلال البرنامج إلى تحقيق المواءمة طويلة المدى بين طالب العمل وصاحبه، وأن البرنامج يسوق لملايين السير الذاتية للباحثين عن العمل من الرجال والنساء لإيجاد المرشحين المناسبين لإتمام عملية التحليل المهني لهم.


أسباب وحلول

من جهته، يستعرض المختص في شؤون التوظيف فهد العتيبي نتائج دراسة متخصصة لمعهد الإدارة عن ظاهرة التسرب الوظيفي، وحددت أسبابها بالآتي:

1 - عدم توفر مسار وظيفي واضح للترقية، وعدم الشعور بالعدالة في تقويم الأداء الوظيفي.

2 - عدم الشعور بتوفر الأمن الوظيفي، وعدم توفر الفرص التدريبية المناسبة، وكون الإجازة الأسبوعية يوما واحدا فقط.

3 - انخفاض الرواتب، وقلة الحوافز، وعدم توفر مكافآت مالية للموظف المجتهد.

3 - الأسباب الشخصية والاجتماعية.

4 - عدم القدرة على الوفاء بالمتطلبات العائلية والاجتماعية بسبب الارتباط بالعمل.

5 - بعد مقر العمل عن المنزل.

ويشير العتيبي إلى ان الدرسة توصلت إلى توصيات منها: دعم الأمان الوظيفي وتهيئة بيئة العمل المناسبة لهم من خلال وضع معايير محددة للترقية وتحديد المسار الوظيفي لكل وظيفة، والالتزام بأسس العدالة عند تقييم الأداء، وتوفير الأمن الوظيفي من خلال وضع ضوابط محددة لقرارات إنهاء الخدمة وربطها بشروط جزائية وعقوبات صارمة تطبق على من يخالفها، وتوفير الفرص التدريبية والتطوير الوظيفي وفتح المجال أمام الموظف لإكمال دراسته، والحرص على تقسيم العمل وتوزيع الأدوار على العاملين بما يتناسب مع قدراتهم ومهاراتهم، والنظر في عدد ساعات العمل وأيام العمل بحيث تكون مقاربة لساعات وأيام العمل.

وتابع: كما أوصت الدراسة بضرورة إيجاد قاعدة بيانات في وزارة العمل عن المتسربين من العمل في القطاع الخاص من أجل الوصول إلى الأسباب الدافعة لتسربهم، وضرورة تحديث نظام العمل والعمال وتطويره بالشكل الذي يجعل من بنوده عوامل جذب للعمالة الوطنية وذلك من خلال حماية حقوقهم وإشعارهم بالاستقرار والأمن الوظيفي، وبضرورة التنسيق بين الجهات ذات العلاقة لتحقيق التوافق بين مخرجات التعليم العالي ومتطلبات سوق العمل.