بينما يفصل نظام المرافعات الشرعية في اختصاصات المحاكم الجزئية والعامة، مراعيا في كل مادة الإشارة لما يختص به ديوان المظالم، فإنه لم يشر في باب الاختصاصات إلى اللجان الإدارية واللجان شبه القضائية التي يجاوز عددها السبعين لجنة موزعة على مختلف القطاعات.
من الناحية العملية، فإن هذه اللجان كانت في بعض الأحيان هي الحل العملي لبعض الإشكاليات المرتبطة بجانب المعرفة الفنية الدقيقة في مجال اختصاص اللجنة وهو ما يصعب توفيره لدى قضاة المحاكم، أو كحل عملي لإشكاليات تطاول آماد التأجيل وتباعد الجلسات الذي يعاني منه المتقاضون أمام المحاكم بأنواعها. وفي تصوري فإن اللجوء لإنشاء هذه اللجان كان حلا عمليا جيدا عند التركيز على موضوعي التخصص والمدد الزمنية، ولكن الناظر للموضوع من جوانب أخرى يجد أن هنالك عددا من المواضيع والأبعاد التي نتجت عن إنشاء هذه اللجان وممارستها لدورها، فضلا عن أن كثيرا منها أصبحت مثلها مثل المحاكم في مدد التقاضي.
أولى هذه الإشكاليات هي التعارض مع مقتضى النظام الأساسي للحكم والذي ينص في المادة (44) منه على أن السلطات في الدولة هي السلطة القضائية والتنفيذية والنظامية، كما تنص المادة (46) منه على أن القضاء سلطة مستقلة، ولا سلطان على القضاة في قضائهم لغير سلطان الشريعة الإسلامية، وواقع الحال من خلال هذه اللجان يبين أن قيامها بدورها يحدث نوعا من التداخل بين السلطتين القضائية والتنفيذية بحيث تكون هذه اللجان غير محمية بما يحمي به النظام الأساسي للحكم القضاة من حيث الاستقلالية وبالتالي تكون عرضة لسيطرة الجهة التنفيذية المعنية عليها، فأعضاء هذه اللجان في الغالب موظفون في ذات الجهة أو تابعون لها بطريقة أو بأخرى، وهو ما يعني أنهم عند أدائهم لمهامهم يراعون علاقاتهم الإدارية المباشرة مع الجهة التي يعملون لها وهو ما قد يخل بالحياد.
من الإشكاليات الأخرى الناتجة عن أداء هذه اللجان هي أنها ـ كما بينا آنفا ـ في الغالب لم تحل الإشكاليات المتعلقة بمدد التقاضي، حيث يمتد نظر القضايا لديها لمدد لا تختلف كثيرا عن تلك التي يعاني منها القضاء، وذلك لذات السبب الذي يثار عند الحديث عن إشكالية تأخير صدور الأحكام القضائية، ألا وهو تكدس القضايا وقلة عدد أعضاء اللجان.
كما أن هنالك إشكالية أخرى مهمة جدا، وهي حجية قرارات هذه اللجان ومدى إمكان التظلم منها أمام ديوان المظالم باعتباره المحكمة الإدارية، فهذه اللجان في آخر المطاف لجان تابعة للسلطة التنفيذية والمفترض في قراراتها أنها قابلة للتظلم بشأنها أمام ديوان المظالم، إلا أن الدارج أن قرارات عدد من هذه اللجان هي قرارات باتة غير قابلة للاستئناف أو الطعن أو حتى التظلم منها أمام المحكمة الإدارية، وهو مالا أرى له مبررا مقبولا خصوصا فيما يتعلق بالهيئات المنشأة قبل صدور نظام المرافعات الشرعية ونظام ديوان المظالم الذي يحدد في مادته الثالثة عشرة اختصاصات المحاكم الإدارية ويبين أن منها التظلم من قرارات اللجان شبه القضائية، وبالتالي فإن اعتبار قرارات هذه اللجان قرارات باتة يحرم من صدر بحقه القرار من ثلاثة مستويات أخرى من مستويات التقاضي وهي المحكمة الإدارية ومحاكم الاستئناف الإدارية والمحكمة الإدارية العليا، وهو ما يتطلب إعادة النظر مرة أخرى في هذه الجزئية.
بالإضافة لما سبق، فإن إجراءات التقاضي أمام هذه اللجان ليست موحدة فيما بينها، حيث تكون لكل لجنة آلياتها وإجراءاتها الخاصة بها، فبعضها تحال إليها القضايا من قبل الجهة الإدارية ذاتها التي تنتمي إليها هذه اللجان، وبعضها تتطلب الرفع إلى جهة إدارية أخرى تقوم هي بدورها بإحالة الموضوع للجنة المختصة.
وحيث إن هذه اللجان ليست من الهيئات القضائية المتعارف عليها دوليا، كما أنها ليس لها صفة التحكيم في إصدار قراراتها، فإنني أتساءل عن مدى حجية قرارات هذه اللجان في الدول الأخرى إذا ما اضطرنا الأمر لأن نقوم بالتنفيذ خارج المملكة، وهل سيتم التعامل مع قرارات هذه اللجان على أنها قرارات مكتسبة للحجية قابلة للتنفيذ مثل قرارات تلك اللجان المصحوبة بالنفاذ المعجل؟
هذه اللجان سحبت البساط تدريجيا من الدور المهم الذي يلعبه التحكيم في الدول الأخرى، وفي نظري أن أحد أهم أسباب ضعف اللجوء للتحكيم في المملكة هو قيام هذه اللجان بالأدوار التخصصية التي كان من الممكن أن يقوم بها التحكيم نيابة عنها، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر لجنة الفصل في منازعات التأمين والتي تفصل في المنازعات القائمة بين شركات التأمين وبين عملائها، وهو ما ينتج عنه أن التحكيم في مجال التأمين أصبح أمرا نادرا هنا في المملكة بينما يشكل رافدا مهما من روافد التحكيم في الدول الأخرى.
أضم صوتي إلى صوت عدد من المختصين بشأن إعادة النظر في هذه اللجان وفسح المجال للتحكيم ليأخذ دوره أمامها ريثما يتم تفعيل المحاكم المتخصصة والتي قد ينتج عنها إلغاء كثير من هذه اللجان.