إن من أكثر عوامل الاضطرابات في المنطقة العربية تحديدا هو الاختلاف حول الهوية التي يرى كل فريق أنها هي الهوية التي يجب أن تكون عليها الدولة والمجتمع! وهذا بلا شك من بقايا آثار الاستعمار والهيمنة الغربية في القرن الماضي، بالإضافة إلى التخلف الحضاري المستمر في المنطقة!

هذه الأزمة في مسيرة البحث عن الهوية هي نتيجة طبيعية لفشل كل الأفكار السائدة، ولو على المستوى التطبيقي، حيث عند الفشل يبحث الناس عن علاج آخر يشعر الشعوب بالاطمئنان إليه والاجتماع تحت سقفه.

ولكي يكون الطرح واضحا؛ يجب أن نحاول تفسير ما هي الهوية التي تبحث عنها الشعوب؟

هناك الكثير من التعريفات للهوية، وتؤثر هنا الآراء الخلفية لمن يريد أن يعرف هذا المصطلح، ولكن بشكل عام؛ فإن أهم الركائز التي تقوم عليها الهوية؛ أنها مزيج من عدة عوامل تتكون من خلال تاريخ المنطقة غالبا، يدخل تحتها اللغة والدين والثقافة وربما اللون والعرق، ولكن يجمع الهوية أنها السقف الذي يستظل تحته الفرقاء داخل الوطن الواحد ليكوّنوا مظلة كبيرة تجمعهم كلهم.

إذا لماذا نحتاج إلى الهوية؟

الحقيقة أن وجود الهوية التي تجتمع تحتها الشعوب هي أهم عوامل الاستقرار في الدولة، ومن خلالها يجتمع ويتحد المختلفون في الرؤى والأفكار وربما الأديان والأعراق، ولولا وجود هذه الهوية لما وُجدت تلك الأرضية التي يمكن من خلالها اجتماع أولئك الفرقاء.

ولأجل إيضاح الأمر أكثر؛ فإن الهوية قد تتعدد بتعدد الاعتبارات، فمثلا في أوروبا؛ فإن الفرنسيين لديهم هويتهم الوطنية الخاصة بهم، كما أن لديهم الهوية الغربية الأوروبية التي يجتمع عليها الاتحاد الأوروبي مثلا وهكذا، فالهوية الوطنية تساهم في قوة الهوية الإقليمية وكذلك العكس.

تجدر الإشارة إلى أن الهوية من أهم مصادر القوة الداخلية في تماسك البلد وتوحّده، وإذا أخذنا المعنى الأشمل للهوية، فإنها أيضا تعطي للمنطقة -التي تحتويها تلك الهوية- قوة إضافية من خلال وحدة تلك الشعوب خلف هويتهم الموحَّدة.

وكلما ضعفت الهوية لدى البلد؛ زادت عوامل احتمال تفكك ذلك البلد واستجابته للتدخلات الخارجية من خلال استغلال تعدد الهويات والصراعات حولها واللعب على توازناتها.

عندما نحاول التفكير فيما يحصل ونعاني منه في منطقتنا من صراعات وعدم استقرار؛ فإن هذا الموضوع يجب ألا يغيب عن أذهاننا.

سأحاول التعمّق أكثر دون الدخول في التفصيلات، لإيضاح الصورة بشكل أدق.

ما هي الهويات التي يتصارع حولها الفرقاء في منطقتنا في العصر الحديث؟ وأيّها الذي يجب أن تسير عليه المنطقة؟

ربما أن من أقدم تلك الهويات التي طُرحت في بدايات القرن الماضي، هي الهوية العربية من خلال الثورات العربية القومية، ثم الهوية الإسلامية التي تُصارع لأجلها الحركات الإسلامية باختلاف رؤاها، وفكرة ثالثة تتمثل من خلال طرح ليبرالي لا تظهر فيه هوية واضحة، وكثيرا ما توصف هذه التيارات بأنها تتنكر للهويتين العربية والإسلامية.

عند تقييم الهوية التي يطرحها الإسلاميون - بشكل عام- فبالرغم من أنها مليئة بالقيم الجميلة والأصيلة، كانتمائها للإسلام وتجذرها في تاريخ المنطقة، إلا أننا بلا شك نلاحظ العديد من الإشكاليات على الطرح الموجود، منها ما يخالط هذه الفكرة من نزعة نحو الأممية ومحاولة تذويب الحدود الجغرافية للبلد، وهذا مما يلاحظه عليهم الآخرون بأن هذه الفكرة تفضي إلى مشكلة اقتصادية كبيرة مثلا، فضلا عن إثارتها لمشاكل سياسية كبيرة، لما تؤدي إليه من زعزعة التوازنات السياسية ومبادئ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وهكذا، بالإضافة إلى الوجود التاريخي لعدد من الأقليات غير المسلمة، فضلا عن عدم وجود فكر سياسي ناضج يُوائم بنجاح بين الدين والحداثة. هذه الإشكاليات وغيرها في الحقيقة لم يستوعبها بعض الإسلاميين حتى الآن، وساهمت في عرقلة الكثير من المساعي لمشاركتهم السياسية وتطويرهم لفكرة مقبولة لدى الفئة الأكثر حتى الآن.

ولكن بالانتقال إلى ما يطرحه أصحاب الهوية العربية، نجد أيضا إشكالات أخرى ساهمت في نشوء العديد من الاضطرابات في المنطقة، ومنها أن التجارب القومية السابقة كانت تنبني على الفكر القومي البحت، وكثيرا ما يتهمها خصومها بأنها لم تكن متصالحة مع الكثير من الموروثات الدينية والثقافية للأمة، بالإضافة إلى أنها كانت غالبا لا تراعي العرقيات الأخرى غير العربية في الدولة، مما أدى إلى العديد من الحركات العرقية المناهضة على امتداد أغلب الدول القومية في العالم العربي.

نأتي إلى الطرح الثالث وهو الطرح الليبرالي، حيث إن خصومه يتهمونه بأن الهوية التي يمكن من خلالها بناء هوية وطنية متماسكة غير موجودة فيه، فضلا عن إلغائه للهوية الإقليمية (الإسلامية والعربية)، وهذا يؤدي حتما إلى إضعاف البنية الداخلية الوطنية والإقليمية للمنطقة، بالإضافة إلى أن النتيجة الحتمية لهذا النقص هو البحث اللاإرادي وربما الإرادي لاستجلاب هوية من خارج الحدود ربما لا تتوافق مع الهوية الحقيقية للمنطقة!

عندما نحاول الوصول إلى فكرة قوية يمكننا من خلالها تشكيل هوية قوية مقبولة من أغلب التيارات، فإنه يجب علينا أن نحيّد جميع أولئك المتصارعين وأزماتهم، ونفكر بحرية وبعقل الشعوب لنصل إلى أفكار هي خليط من جميع ما يميز منطقتنا، وعلى رأسها الإسلام واللغة، متصالحين مع الدين والحداثة وجميع الأعراق الموجودة في المنطقة.

لماذا لا نجد تيارات كبيرة في العالم المتقدم مؤسسة على فكر مناقض لهوية الدولة؟ ولماذا لا نجد دولا تسعى لاستئصال تيارات كبيرة منتشرة بين أبناء الشعب في المقابل؟

الجواب باختصار؛ أنهم يمتلكون هوية وطنية واضحة تسعهم جميعا مهما اختلفوا.

هذا الموضوع كبير وواسع جدا، والواجب على النخب والمثقفين أن يتحرروا من استقطابات التيارات والماضي، كي يخرجوا بحلول تساهم في رفعة بلادهم وشعوبهم.