من الوقفات التي تستدعي التناولات الحية، والاستفاضة في مناقشتها والتماهي مع مكوناتها، والتداول الفكري في معنى ملفوظها ووظيفته ودلالته المطردة، هو لفظ "الوطنية" بمتنه التاريخي الذي أدى إلى ذلك التقاطب، والاستدراج والإفراغ المتعمد من محتواه المرسل.

قبل أربعين عاماً كنت أشرح لتلاميذي موضوعاً في مادة القراءة، يتحدث عن فلاّح صيني كان يمارس عمله في الغابة بمعية ابنه، وفجأة هجم عليهما غزاة أشداء، وطلبوا منه أن يخبرهم بأسرار بلاده، وعدد الجيش وعدته ليتمكنوا من اقتحامها والاستيلاء عليها وإلا فإنهم سيقتلونه، فطلب منهم أن يتخلصوا من ذلك الشاب الذي قد يخبر قومه بما فعل حين يبوح بأسرار بلاده، فينتقموا منه نظراً لخيانته، استجاب الغزاة لرغبته وقتلوا الشاب، بعدها التفت الأب إليهم وقال بكل زهو وكبرياء: أما الآن أصبحت أسرار بلادي في مأمن، إنها في صدري وقد خفت أن يضعف ابني إن تعرض للتعذيب والتهلكة فيبوح بأسرار بلدي، أصيب الغزاة بالذهول وقال قائدهم: "لن أغزو بلداً فيها مثل هذا الرجل"، وعاد وجيشه أدراجهم.

ترى من أخفى وغيب مثل هذه القصص من مناهجنا؟ وهل تتوقع لو قرأها "إبراهيم عسيري" المتخصص في تصميم قنابل الملابس الداخلية لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، أنه سوف يقبل خيانة دينه ووطنه وأمته، ترى لو قرأها ذلك الباحث الذي طار فرحاً حين بدا له أن حديث "حب الوطن من الإيمان" يدخل في سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني، وأن الوطنية في رأيه هي وثنية وفكرة انعزالية، بل هي تدليس وجاهلية، فلا وطنية في الإسلام، وليته أخذ بمقولة المسعودي: "من علامة وفاء المرء دوام عهده وحنينه إلى إخوانه وشوقه إلى أوطانه، ومن علامة الرشد أن تكون النفس إلى مولدها تائقة، وإلى مسقط رأسها شائقة"، ويقول المفكر الإسلامي الدكتور عبدالكريم بكار: "الوطنية هي الشعور بشرف الانتماء للوطن"، أما أن الإسلام لا يقر حب الأوطان ويتناقض مع ذلك الحس الفطري داخل كل مسلم الذي فطر الله عليه خلقه، فهذا ما لا تقره شواهد دين الله وحكمة شرعه، قال تعالى في سورة البقرة: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون}.

وذكر ـ سبحانه وتعالى ـ في سورة المائدة جزاء المحاربين لله ولرسوله والساعين في الأرض فساداً، حيث جاءت العقوبة والحدود مرتبة ما بين القتل والصلب وتقطيع الأيدي والأرجل، وكان آخرها "النفي" من الأرض و إخراجهم من الوطن وتشريدهم من مساكنهم، فخروجهم من ديارهم ذلة ومهانة وعقاب، وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم إلى المدينة راجعاً من خيبر وبدا له "أحد" قال: "هذا جبل يحبنا ونحبه"، وحديث بن سلام في الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال: أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، فكره رسول الله أن تعرى المدينة وقال: "يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم" فأقاموا. وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم رسول الله إلى المدينة وعك أبو بكر وبلال، فكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل... وهل أردَنْ يوماً مياه مجنة... وهل يبدونْ لي شامة وطفيل. والإذخر وجليل موقعان قرب مكة، وشامة وطفيل جبلان مشرفان على مجنة، وكان يقول: اللهم العن شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد"، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "عمّر الله البلدان بحب الأوطان"، وفي حديث أصيل الغفاري بعد عودته من مكة إلى المدينة حين سأله رسول الله: يا أصيل كيف عهدت مكة؟ قال: والله عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها، وأغدق إذخرها، وأسلت ثمامها، وأمش سلمها، فقال رسول الله حسبك يا أصيل، لا تحزنا وفي رواية ويها يا أصيل، دع القلوب تقر قرارها. وقال السهيلي: قال ورقة للنبي صلى الله عليه وسلم: "لتكذبنه قريش" فلم يقل له شيئا، ثم قال: "ولتؤذينه" فلم يقل له شيئا، ثم قال: "ولتخرجنه" فقال عليه السلام: أو مخرجي هم؟!، ففي هذا دليل على حب الوطن وشدة مفارقته على النفس.

إن حب الوطن شيء فطري، وهو سمة من سمات الاستواء النفسي والعاطفي كما يقول الدكتور أحمد آل مريع، فكيف إذا كان هذا الوطن "هو مهبط الوحي ومأرز الإسلام، ومستقر الصحابة، ومأوى المؤمنين، وفيه أقدس بقعتين على وجه المعمورة" وعلى ترابه قامت أعظم وحدة جمعت القلوب المتنافرة، والعصبيات المتناحرة، تحت راية الحق والتوحيد التي رفعها موحد الأمة الملك عبدالعزيز، وأبناؤه ورجاله الأفذاذ.