شيء غريب وعجيب أن يكون مفهوم إثبات النجاح مبنيا على اتهام الآخرين بالفشل. والحقيقة أن أمجاد الثقافة والعطاء العربي بكل مجالاته لا تكون ولن تكون إلا بالنجاح الجمعي، وهذه أولى بديهيات التفكير البناء والمتقدم المبني على تدعيم الآخر وهو ما يثري عطاء الفرد نفسه أياً كان مجالة.

ومما لا شك فيه أن إبداعاتنا وحضارتنا القديمة قد تأسست على العمل الجماعي، ولم تعرف المجتمعات العربية الأعمال الفردية على الإطلاق. ويرجع ذلك لعدة عوامل منها عوامل طبيعية مثل امتداد الأفق، وتقلبات المناخ، وانتشار الوحوش والزواحف وغير ذلك من العوامل الطبيعية تجعل الفرد على مستوى البنية النفسية يأنس بالآخر، وبالتالي تكون الجماعات في شكل تكتل جمعي، إذ لا نجد إنسانا يحيا بمفرده على تلة جبل أو في كوخ على جانب البحيرة، كما نجد في المجتمعات الغربية؛ وهناك بعض العوامل المجتمعية والتي تتمثل في السلطة المركزية والتي على قمتها شيخ القبيلة. هذه العوامل عملت على وجود نسيج عرضي يعمل على تشابك العلاقات الإنسانية، والتعاون المجتمعي بالإضافة إلى سطوة العادات والتقاليد التي يتوجها مفهوم النخوة والشيمة والمروءة وما إلى ذلك.

كل هذه السمات جعلت من العمل الجماعي ثمرة تجنى على مدار التاريخ والحضارة العربية، والتي تختلف عن تلك السمات في المجتمع الغربي في سمات إبداعاته القديمة والتي تتسم بالفردية، وذلك لعوامل تختلف عن تلك العوامل سالفة الذكر. على سبيل المثال ما نجده في الشعر والموسيقى والنحت وحتى فنون المعمار، نجد تفرد دافنشي وفرجيل وشوبان وغيرهم ممن تفردوا في إبداعهم، بينما نجد أن الشعر لدى العربي يبلغ ذروته في المساجلات وشعر الرد، والهجاء والمدح، ثم إنه لا يقام معمار إلا بيد الجماعة تطوعا وتعاونا ونخوة حتى في إقامة بيت الشَعَر وهو أقل الأعمال على سبيل المثال.

وفي أوج النهضة الصناعية والإبداعية في دول العالم المتقدم نجد أنها اتجهت إلى العمل الجماعي، والتعاون في الإبداع في جميع اتجاهاته ومساراته على مختلف الصعد، بينما نجد أن الانحسار نحو الفردية والميل للتفرد أخذ مأخذه في بلادنا، وظهور نزعة جديدة من الإقصاء أو حب الاستحواذ، مما يعمل على تدني الروح الإبداعية وتراجع الفهم في الإبداع في العمل الجماعي.

وفي دراسة أجريت حول العمل الفردي والعمل الجماعي نتج عنها أن للعمل الفردي سلبيات، منها أنه (قليل الأثر، ضئيل الثمرات، احتمال الخطأ أكبر، العمل الفردي آفات للقلوب.. لأنه قد يعجب المرء بنفسه، يورث بين الناس الفرقة ويؤدي للجدال، قصير الأمد، يعتريه الضعف بضعف الفرد، قد يورث اليأس عند الناس لمحدودية الأثر)، بينما نجد نتائج مبهرة لنجاح العمل الجماعي ومنها (صاحبه ينطلق بدافع وتحفيز ذاتي كبير، صعوبة إيقافه والتأثير عليه لأن الجماعة إذا ووجهت بالمقاومة دون تماسك ستنفض، لا يقارن بالعمل الفردي لأنه ضرورة لا بد منها الآن، كثرة العطاء وعظمة النتائج، ربط الناس بالفكرة وليس الشخص، الحصول على فوائد الشورى، التكامل في العمل، العمل المنهجي المنظم، مواجهة تحديات الواقع، تستفيد من تراكم الخبرات، تعاظم الموارد المادية، استثمار الجهود واختصار الوقت، تطوير قدرات الأفراد أنفسهم)، وبالتالي ينسب النجاح للجماعة وليس لفرد على حساب الآخر، فلا مكان للحقد أو الحسد أو التباهي والاستعلاء، وهذا ما تنتهجه الدول المتقدمة في نظم العمل وفي دوائر التعليم أيضاً، فلا تترك ذلك الأثر النفسي من الحساسية بين الفرد والآخر من عوامل الغيرة والإقصاء في بعض الأحيان!

وللأسف الشديد أن توغل الفردية في العمل وفي الدراسة أيضا هو ما ينخر في لب العطاء الذي يعد مبهرا لو أنه تكامل مع الآخرين. وللأسف الشديد نحن من نؤسس لذلك في بيوتنا وفي أسرنا منذ مراحل الطفولة، فنجد الأم في المنزل تنتهز عامل التوبيخ لطفلها أو ابنها أو ابنتها حين تقول له: "شوف ابن فلان، أو شوفي بنت فلان، تفوق عليك، أحسن منك، درجاته أعلى، ترتيبه أرفع"، وهي لا تعي أنها بذلك تنمي في قرارة نفسه نوعا من الحقد على الآخر، ونوعا من حب الذات على حساب الآخر! ثم يتطور الأمر ويكبر وينتفخ في الذوات الفردية حتى نرى ما نراه في جميع السبل والمكاتب والمدارس والهيئات من الدائرية والذاتية التي تؤدي في نهاية المطاف إلى تدني الإنتاج وتفسخ عرى الود على المستوى النفسي وإن لم يبح بها الفرد فهي ترقد في وعيه أو في اللا وعي إن تجاوز الأمر! حقيقة نحن نرى نتوءا غير حميد في شتى المجالات، والتي لا تخدم الإبداع والنجاح على المستوى العام، دون وعي منا بأن النجاحات الفردية قد لا تخدم الفرد بالإضافة إلى تدني النتائج على المستوى العام وعلى مستوى المؤسسات نفسها، نتاج ذلك النزاع الذي لم يعد له مجال في رؤية مستقبل أفضل لوطننا ولمؤسساتنا ولدوائر يفترض أنها ترتفع بمستوى الناتج الفعلي لكل منها. فالفردية والذاتية مرض لا يزال يتفشى بيننا يقودنا إلى التخلف الحضاري على الرغم من أن رواد النجاحات الفعلية أفراد، إلا أنهم يذوبون في العمل الجماعي، ولذا نحتاج في يومنا هذا إلى ذلك التوازن بين الروحين: الفردية الجماعية، مع توفير المناخ المناسب لتنمية شخصياتهم وتذويب الحواجز على أن النجاح الجمعي هو ما يقود الوطن إلى التقدم والنجاح والتطور، فالنجاحات الفردية نجاحات فردية تذهب بذهاب أصحابها.